كثيرون يعتقدون أن "الردة عن الإسلام" لم تبدأ إلا بعد أن انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى. وهذا الاعتقاد في صورته العامة لا يتفق مع الواقع التاريخي، وهذه المقولة تقتضينا شيئًا من التحديد، فنقرر في هذا المقام أننا في معالجتنا العلمية للردة يجب أن نفرق بين صورتين لها:
الأولى: الردة في صورتها العَـقَدية التي تعني الانسلاخ من الإسلام أو بعض أركانه وخصوصًا الزكاة.
والثانية: الردة في صورتها العسكرية التي تمثلت في جيوش خرجت وتمردت على السلطة المركزية في المدينة.
وتفريقنا بين الصورتين إنما يعتمد على "العنصر الزمني المرحلي" لا على "صبغة كيفية أو مذهبية"، بمعنى أن الردة في صورتها الثانية تحركت ـ من الناحية المذهبية العقدية ـ اعتمادًا على الانسلاخية الكلية أو الجزئية من الإسلام، وإن تأخرت عنها زمنيًا.
وبشيء من التفصيل نقرر أن بوادر الردة "بمفهومها العقدي" ظهرت في العامين الأخيرين، أو العام الأخير من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وربما كان أول من كشف عنها "مسيلمة بن حبيب الحنفي" ـ الذي أطلق عليه بعد ذلك "مسيلمة الكذاب".
ففي العام التاسع من الهجرة جاء "مسيلمة" هذا مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقادته وقاحته وسوء أدبه إلى أن يردد أمام المسلمين قوله "لو جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته"، ونقل بعض المسلمين للنبي ما يردده مسيلمة، فأشار النبي بيده إلى قطعة من جريد النخل، وقال "اسمع يا مسيلمة: والله لو سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
وأمام هذه المواجهة الصريحة لم ينطق "مسيلمة" بكلمة، وعاد مع قومه بني حينفة إلى بلادهم.. اليمامة وما حولها، وكانوا من أمنع الناس وأقواهم وأغناهم، وأكثرهم خيلاً ورجالاً، وسلاحًا، وزراعة، وأعلن "مسيلمة" على رءوس الأشهاد من قومه أنه "نبي مرسل" وأن الوحي بدأ في النزول عليه.
ويروى ابن هشام في السيرة النبوية أنه أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا نصه:
"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أُشرِكْتُ في الأمر معك، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون".
ورد عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
وبالنظر في سلوك "مسيلمة" وهو في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالنظر كذلك في كتابه إليه تواجهنا "شخصية منحرفة"، تحكمها "عقدة التعاظم" التي تفهم النبوة والرسالة على أنهما ملك وسلطان، وسيادة وهيمنة على الأرض، وفي سبيل ذلك تكون التضحية بالأخلاقيات النبيلة والقيم العليا أمرًا لا غبار عليه.
بينما نرى في مواجهة الرسول - عليه السلام - لمسيلمة وهو في المدينة، ومواجهته له بعد ذلك في رده المكتوب إليه عدة معان وقيم عليا أهمها اثنتان:
الأولى: الصراحة في الحق، ومواجهة المنحرفين والطامعين، والجبارين، دون مواربة أو مصانعة، أو تفريط في دين الله.
الثانية: تجنب اللجاج والجدل، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا أو حقائق جوهرية واضحة لا تحتمل النقاش مثل: سمو النبوة والرسالة، وما هيأه الله للإنسان في الكون، وجزاء التقوى. وجزاء الكفران والطغيان والجحود.
وينتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وتتحول الردة العقدية إلى جيوش وسلاح، وينهض أبو بكر - رضي الله عنه - بالأمر، وينطلق خالد بن الوليد إلى مسيلمة، وتدور معارك من أشرس وأدمى ما عرف التاريخ، وينهزم بنو حنيفة، ويصرع مسيلمة، وترتفع راية الإسلام من جديد، وتصدق في مسيلمة كلمة الرسول - عليه السلام -:"ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
جابر قميحة