" … لا يجب أن نسمح لأحد بأن يسلبنا المبادرة … علينا نحن أن نعمل على تحقيق التقدم والمساواة وحقوق الإنسان، ورفض الإجابات الجاهزة، لغة الماضي التي تسحقنا …".
بهذه الكلمات افتتح مؤتمر المؤسسة العربية للتحديث الفكري، والتي تمَّ ولادتها رسمياً في بلاد المسلمين بعد أن كانت حيناً من الزمن في سويسرا.
إنَّ ما يثير العجب والدهشة أن تتلاقى جهود " الحداثيين " في نهج واضح لهم، تتلاقى في مؤسسات وأفراد وإعلام، في الوقت الذي نرى فيه تمزّق جهود المسلمين الذين يعلن كلّ منهم أنَّه يريد حماية الإسلام ودين الله ونصرته.
" المؤسسة العربية للتحديث الفكري " تنهض لِتُعْلِنَ ولادتها من بيروت، وتقيم مؤتمراً ضخماً تحت عنوان: " الحداثة والحداثة العربية "! (1) يشهده العاملون للحداثة من مصر وسوريا ولبنان وليبيا والأردن وتونس والمغرب وغيرها، يمثل هذه البلاد رجال عرفوا باتجاههم الحداثي الذي يسمونه تنويراً، وفي الكلمات التي أُلقيت في المؤتمر أجمع الرأي على أن الجسم مريض كلّه، وأن هدف المؤسسة: " إحياء المشروع التنويري على المستوى الفكري "، وقالوا: " إنَّ الذي نحن فيه ليس إغماءة ولكنّه موت عيادي …"(2)، وهل عملية التنوير التي يريدونها تحيي الموتى من الموت العيادي؟! أم توقظ الغفاة الغافلين؟! وهل هم واثقون من أنَّ المرض لم يمسَّهم وإنَّما مسَّ غيرهم، وأنهم هم معافَون؟!
ويقولون: "إن أهداف المؤسسة العربية للتحديث الفكري هو الإسهام في تطوير فكر وثقافة عربيين تقدميين وإنسانيين وتنشيط الإبداع الثقافي من خلال الانفتاح على منجزات الحداثة في العالم ".
هو إعلان صريح عن أنَّ القضيّة قضيّة عربيّة فقط، قضيّة يراد أخذها من الغرب، من منجزات الحداثة في العالم، ليصبح عندنا ثقافة تقدّمية إنسانيّة! وأعجب أن يصدر هذا عن رجل لم تصبه إغماءة ولا مات موتاً عيادياً، أعجب كيف يرجو التقدّم والإنسانية من منجزات الحداثة في العالم، وهل هذه المنجزات غير ما نراه في فلسطين والعراق وأفغانستان وأفريقيا وهيروشيما وناجازاكي ودول أمريكا اللاتينية، بل في ديارهم هم في أمريكا والغرب، حيث لم يظهر في التاريخ البشري قادة يكذبون ويفترون، ويظلمون ويعتدون ويفسدون، كما نراه من قادة أمريكا ومنجزاتها الحضارية والتقدمية والإنسانية التي سحقت حقوق الإنسان وكرامته، وسحقت الأمومة وأيامها، والطفولة وأعيادها، والمرأة وكرامتها، وحولت ذلك كله إلى شعارات ترفرف فوق المجازر والدماء والأشلاء والجماجم.
يتحدّثون عن الإنسانية ويريدون أن يأخذوها من منجزات الحداثة الغربيّة، وهل عرفت البشريّةُ الإنسانيّةَ خارج الإسلام؟! هذا هو التاريخ البشري كلّه قديمه وحديثه، سحقوا الأمومة في الأسرة والبيت، ثمَّ جعلوا لها عيداً، عيد الأم، الأمومة الحقيقية هي في البيت الذي لم يتمزّق، في الأسرة التي اشتدت روابطها، والطفولة لا تنبت إلا في أحضان الأمومة الحانية، تفرغ من صدرها صافي الغذاء لأطفالها، وصادق الجهد من بذلها، وصادق العاطفة من قلبها وحنانها، عندما تعطي ذلك كله الوقت الحقَّ لتربية الأجيال، وتنشط في المجتمع بعد أن تكون رعت البيت والأسرة، وتدخل ميادينها الكريمة في البذل والعطاء، طاهرة عفيفة.
أين هو التنوير وأين هي الإنسانية؟! لقد أدخلت منجزات الحداثة في العالم الإنسانَ في ظلام دامس، وأسقطته في وحول، ورمته في تيه من الضياع:
(أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون) [الأنعام: 143].
من كان جاداً في إصلاح حال الأمة فمن الخطأ أن يلجأ إلى منجزات الحداثة التي أهلكت الناس، من كان جاداً في ذلك فليلجأ إلى الإسلام، إلى دين الله، إلى النور المتدفق والخير الحقّ، والأسلوب الجادّ في كلِّ إصلاح.
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن " الحداثة العربية "، و" الحداثة " بصفة عامة في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين مَنْ يحاول استحداث "حداثة راشدة " لتقاوم " الحداثة الهجينة " الزاحفة.
ولفظة " الحداثة " نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها، وقد طلع بها " الحداثيون " أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم.
وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يَعدْ يناسب النهج الإسلامي بعد أن بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستقرَّ الإسلام ديناً للأمة كلّها.
فكلمة حَدَثَ وأحدثَ وحديث وحداثة لها معانٍ متعددة في المعاجم، ولكن من الناحية الفكرية، وحسب ما أتت به الآيات والأحاديث، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس، فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدَث تدلّ على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتدّ، كما في قوله - سبحانه وتعالى -: (وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين) [الشعراء: 5]، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء: 2].
ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدثٌ ضد القديم الذي هم عليه. والقديم الذي هم عليه باطل، والذكر المحدَثُ هو من عند الله، وهو الحق.
أما عندما استقرَّ الإسلام وأصبح دين الأمة، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة.
وفي الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي وابن ماجه يرد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((… إيَّاكم ومحدَثات الأمور فكل محدَثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة)) (2)، وفي كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل المدينة، يأتي قوله: ((… وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما جاء في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً أو يؤويه وأنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل)) (3).
ولذلك أصبحت كلمة " أحدث " و" محدث " تدل على أمر مرفوض شرعاً، غير مقبول، ولا مجال لتزيينه وزخرفته، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم، والقديم الثابت الممتد بعد أن استقرَّ الإسلام هو الإسلام، فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام، والمحدَث: الأمر المنكر الذي يرفضه الإسلام.
وفي لسان العرب:
الحديث: نقيض القديم.
محدَثات الأمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.
المحدثة: ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع.
يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة، وما أتى به أهل الأهواء، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة.
وأما موضوع " الحداثة العربيّة "، فهل القضية قضيّة قوميّةٌ وهل الميزان ميزان قومي؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة؟! وحتى نجابه هذه " الحداثة الهجينة "المزخرفة بزخرف " العروبة " والموجّهة للناس كافة فعلينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميّاً لكل إنسان وشعب وأرض، ولا يوجد غير الإسلام يؤمِّن لنا هذا التوجّه الإنساني العام، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان.
لقد منَّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها، وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدةً وديناً وشعاراً، مهما وقع من تفلّت في بعض المبادئ، لقد ظلّ الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم.
لقد نهجت هذه القوى " الحداثية العلمانيّة " خطة مكر أصابت نجاحاً، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم، وكثرة تنازلاتهم، وميلهم إلى المهادنة، أو الاستسلام، فسارت على خطّة شيطانيّة حذَّرنا القرآن الكريم منها بقوله - سبحانه وتعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ ا لله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم) [النور: 21]، حتى جعلوا " الحداثة حداثة عربية " وأنشؤوا لها تلك المؤسسة السابق ذكرها.
جاءت "الحداثة " ومرت بنفس مراحل خطوات الشيطان، حتى أصبح من بين المسلمين دعاةٌ صريحون يدعون إلى حداثة الغرب وإلى ما يسمّونه " الحداثة العربية " أو" الحداثة الراشدة "، في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استُدْرِجوا خطوةً خطوةً حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. ولقد بلغ الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع، ولم تكن " الحداثة " وحدها تصارع، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها، والجيوش الزاحفة كذلك، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة.
لفظة الحداثة، لم تعد تعني التطور والنمو، ولا الرشاد والوعي، ولا التجديد، ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنَّ علينا بخير منها.
اختلطت مصطلحات: الحداثة، والقومية، والإنسانية، والأصالة، والنمو، والتطور، والتجديد، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأيٍّ منها مفهومٌ محدّدٌ قابلٌ للتطبيق، ولا منهجٌ جليٌّ يُحْكَم له أو عليه، إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها.
الإسلام، والكتاب والسنة، كلُّ ذلك ليس مجرّد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه كما يدَّعي بعضهم. الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان.
إنَّ المرض والوهن ليس في العرب وحدهم، إنه في أمّة الإسلام اليوم، وإنَّ أول خطوة في التيه تحدث حين ننعزل عن حقيقة أهلنا وأمتنا، الأمة الإسلاميّة التي صهرت القوميّات كلّها والعصبيات كلّها في أخوّة الإيمان الصادق والتوحيد الصافي، والتي اختارها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
فإذا كنَّا لا نلمس عظمة الإسلام في واقعنا اليوم، فليس ذلك إلا لخلل في المسلمين أنفسهم وضعفهم ومرضهم، ولا شفاء لهم ولجميع قومياتهم إلا بالعودة الصادقة للإسلام ورابطته الربانيَّة ومنهجه الربَّاني، إن الخلل موجود والمرض موجود وتنافس الدنيا قائم، ونسيان الآخرة ويوم الحساب ظاهر، وهجرنا كتاب الله وسنّة رسوله، وأثرنا كلّ أسباب الفرقة والتمزّق، ولهيب الأهواء وشهوات الدنيا في زخرف كاذب مغرٍ، ولافتات مستعارة باطلة.
ندعو الحداثيين والعلمانيين دعوة صريحة واضحة إلى أن يعكفوا على كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت نفسه ندعو أنفسنا نحن المسلمين إلى ذلك أيضاً، فقد هجر الملايين من المسلمين الكتاب والسنّة واللغة العربية، حتى جهلوا هم أنفسهم حقيقة الإسلام وعظمة الشنار الذي فيه.
نحن المسلمين اليوم متخلفون ليس عن الحضارة المادية فحسب، ولكننا متخلفون عمَّا يأمرنا به الله. ندعو الجميع إلى حقيقة الإيمان والتوحيد الذي يدفع المؤمن إلى منهاج الله، ومنهاج الله الذي يغذي الإيمان وينميه ليظلّ التأثير بينهما متبادلاً.
نحن المسلمين متخلفون في ميدان العلوم التطبيقية وميدان الصناعة، في الميادين التي يأمرنا أن نجول فيها، لو وعينا حقيقة الإيمان وصدق تدبّر منهاج الله، نحن متخلفون في ذلك، فلنأخذ عن الغرب العلم والصناعة، ولنعطهم خير الدنيا والآخرة: جوهر الإيمان الذي يأمر به الله، ولنعطهم حقيقة الدين كما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -!
إنَّ هذه الدعوة التي تحمل رسالة الله إلى النَّاس كافَّة كما أُنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فرض علينا فرضه الله ورسوله، فلننهض إلى هذا الفرض، الذي شُغلنا عنه بأمور كثيرة، فلننهض إلى هذا الفرض الذي سنحاسَب عليه بين يدي الله، ولنبلّغ رسالة الله إلى الحداثيين وإلى الناس كافة، كما أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كان من الحقِّ أن نبادر بتبليغهم رسالة الله، ولكنَّهم بادروا هم ليُبلِّغُونا الحداثة ويقيموا لها المؤسسات في زخرف الشعارات والبيانات!
إنَّنا نحن محاسَبون بين يدي الله، وإنهم محاسَبون: (نَحْنُ أعْلمُ بما يقولون وما أنتَ عليهم بِجبَّار فذكّر بالقرآن مَنْ يخافُ وعيد) [ق: 45].
نعم! (… فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)، أيها المسلمون انهضوا وذكّروا بالقرآن وبمنهاج الله واجمعوا الناس عليه!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عدنان النحوي