مَحَاوِرْ اْلبَحْث:
1- منزلة حفظ اللسان.
2- فضل الكلام الحسن وطلاقة الوجه.
3- أثر آفات اللسان على هدم العلاقات الاجتماعية.
4- أثر آفات اللسان على المجتمع التعليمي والثقافي والأدبي.
5- دور المربين وأرباب الفكر في معالجة آفات اللسان.
مَدْخَل
لن أبالغ كثيراً في تقديم محتوى البحث: فهو وضع لهدفٍ أسمى من أن تسبقه مقدماتٍ مهما استوفت بنوده تبقى ناقصة عن بلوغه.
فقط سأطرح قصة: ربما تجدي ما لا يمكن أن ثرثرتي به تجدي، في يوم من الأيام استدعى الملك وزراءه الثلاثة، وطلب من كل وزير أن يأخذ كيساً، ويذهب إلى بستان القصر ويملأ هذا الكيس له من مختلف طيبات الثمار والزروع، وطلب منهم أن لا يستعينوا بأحد في هذه المهمة، وأن لا يسندوها إلى أحد آخر، استغرب الوزراء من طلب الملك، وأخذ كل واحد منهم كيسه وانطلق إلى البستان.
الوزير الأول: حرص على أن يرضي الملك، فجمع من كل الثمرات من أفضل وأجود المحصول، وكان يتخير الطيب والجيد من الثمار حتى ملأ الكيس,
أما الوزير الثاني: فقد كان مقتنعاً بأن الملك لا يريد الثمار ولا يحتاجها لنفسه، وأنه لن يتفحص الثمار، فقام بجمع الثمار بكسل وإهمال فلم يتحرَ الطيب من الفاسد، حتى ملأ الكيس بالثمار كيفما اتفق.
أما الوزير الثالث: فلم يعتقد أن الملك سوف يهتم بمحتوى الكيس أصلاً، فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الأشجار.
وفي اليوم التالي أمر الملك أن يؤتى بالوزراء الثلاثة مع الأكياس التي جمعوها، فلما اجتمع الوزراء بالملك أمر الملك الجنود بأن يأخذوا الوزراء الثلاثة ويسجنوهم كل واحد منهم على حدة مع الكيس الذي معه لمدة ثلاثة أشهر، في سجن بعيد لا يصل إليهم فيه أحد كان، وأن يمنع عنهم الأكل والشراب.
فالوزير الأول: بقي يأكل من طيبات الثمار التي جمعها حتى انقضت الأشهر الثلاثة.
أما الوزير الثاني: فقد عاش الشهور الثلاثة في ضيق وقلة حيلة معتمداً على ما صلح فقط من الثمار التي جمعها.
وأما الوزير الثالث: فقد مات جوعاً قبل أن ينقضي الشهر الأول.
وهكذا اسأل نفسك من أي نوع أنت؟
فأنت الآن في بستان الدنيا ولك حرية أن تجمع من الأعمال الطيبة أو الأعمال الخبيثة، ولكن غداً عندما يأمر ملك الملوك أن تسجن في قبرك في ذلك السجن الضيق المظلم لوحدك، ماذا تعتقد سوف ينفعك غير طيبات الأعمال التي جمعتها في حياتك الدنيا؟
منزلة حفظ اللسان وعظيم خطره
اللسان من نعم الله الجليلة، فإنه عظيمٌ طاعته، وبالمقابل عظيمٌ جرمه، عضوٌ يؤكد ويثبت أن المتناقضين متلازمان كضرورة من ضرورات استمرار الحياة، وكتناسب عكسي واجبٌ حدوثه في كل ناحية من نواحي الدنيا والآخرة معاً، كما هو التناقض الحكيم الذي جعل الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء)) رواه البخاري.
ثم قال حين جاءه أحد الصحابة فقال له: يا رسول الله أردت أن أغزو، وجئت أستشيرك؟ فقال: ((هل لك من أم))؟ قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها)) رواه النسائي.
ودعونا معاً نعدد ما يمكن للسان أن يسمو بصاحبه، أو أن يزجه في قعر الغابرين..، لنستشف إن كان اللسان ذا قدرٍ ومنزلةٍ حقاً أم لا.
1- قد أيقنت أنه لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان المقرونة بالجنان، وهما غاية الطاعة والعصيان.
2- ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيلٌ أو معلوم أو مظنون إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شيء إلا والعلم متناول له، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير المحسوسات، وكذا سائر الأعضاء..، بينما اللسان هو مصدر الذوق، وهو سبيلٌ لخروج الحكمة، والنطق بالحق، وردع الظالم، وتحسين صورة الإسلام لدى الغرب، والدفاع عن رسول الله، والدعوة إلى الله، وهو أيضاً وسيلةٌ للحديث بعورات الناس التي رأيناها أو أحسسناها أو سمعناها، وسبيلٌ لخروج الألفاظ الشركية أو ألفاظ الكفر، فهو سيد الحواس وما الحواس الأخرى إلا مساعدة له.
3- اللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذب اللسان وأهمله بدون تأطير سلك به الشيطان في كل ميدان، وكذلك من أطلق عنان لسانه بدون أن يمسك بزمامه سيق إلى شفا جرفٍ هار، فقد روى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمرٍ لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم))، قال: قلت: فما أتقي؟ فأوما بيده - عليه الصلاة والسلام - إلى لسانه" أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه، وقال أيضاً: ((من وقى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى الشر كله)) أخرجه أبو منصور الديلمي من حديث أنس بسند ضعيف، والقبقب: هو البطن، والذبذب: الفرج، واللقلق: اللسان.
فهذه الشهوات الثلاث بها يهلك أكثر الخلق، ولعلنا لو تفكرنا قليلاً بعيداً عن سند هذا الحديث الضعيف في أمر هذا اللسان؛ لوجدناه فعلاً سبيلاً إلى معصية الفرج وكذلك البطن، بينما البطن والفرج ليسا سبيلاً إليه أبداً فعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول: "يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم،" فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته؟ فقال: لا بل سمعت رسول الله يقول: ((إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)). أخرجه الطبراني، وابن أبي الدنيا في الصمت، والبيهقي في الشعب بسند حسن.
4- كما قيل: كل إناءٍ بما فيه ينضح، فكل شيء عنوان، واللسان عنوانٌ ومترجم لما في القلب إن كان خيراًً أم شراً، كما أنه كاشف النوايا إذا استترت إلا عن خالقها، فالروح مكمن الجسد، والجسد مكمن الروح، وتلك رؤية لم تكن عشوائية جاد بها فكري لحظة فراغ، وإنما كانت نتيجة تحليل طويلة وتأمل في أحد نصوص الرسول - عليه الصلاة والسلام - حين سأله ابن مسعود: ((أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي، قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك، قال: ثم أي، قال: أن تزني بحليلة جارك)) أخرجه البخاري، ولأنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - فهو (لا ينطق عن الهوى) حتى في حديثه العابر، يضع مؤشرات لا يفهمها إلا من يتوغل فيها، فحين أشار لتلك المعاصي كان مجمل قوله يدل أن الروح مرتبطة بعمل الجسد، والجسد مرتبط بعمل الروح.
وتحليلي لنصه وفق رؤيتي المتواضعة كانت كالتالي: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))، المعصية الجسدية هنا هي أفعال لشرك، ولدت من معصية روحية وهي: عدم الإخلاص (أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك)، المعصية الجسدية (القتل)، المعصية الروحية (عدم التوكل على الله).
((أن تزني بحليلة جارك)) الزني كله محرم، لكنه - عليه الصلاة والسلام - هنا خص الزنى بزوجة الجار، المعصية الجسدية هي: الزنى، المعصية الروحية هي: الخيانة.
الخلاصة:
لو لم تنحرف الروح لم ينحرف الجسد، ولو لم ينحرف الجسد لم تأثم الروح، إذاً هما ركنان لا يمكن إسقاط أحدهما لمصلحة الآخر أبداً، ولا يمكن فصلهما أبداً، الشاهد من هذا التحليل والاستشهاد بالحديث الشريف أن سقطات اللسان تلك المعصية الجسدية لم تأت من فراغ، بل كانت زبداً فاضت به النفس الأمارة بالسوء، ليكشف هو مكنوناتها وعوراتها التي سترها الخالق، فقد قال -عليه الصلاة السلام-: ((إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه، ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همَّ بشيء أمضاه بلسانه، ولم يتدبره بقلبه)) مرفوعاً، وإنما رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من رواية الحسن البصري، ولأننا كثيراً ما نهتم بأشكالنا، ونبالغ في زينة بيوتنا التي تدل على أذواقنا، فمن باب أولى أن نهتم بألسنتنا الفاصلة أمام الناس، بين الخيط الأبيض والأسود من القلب، والترمومتر الذي يقيس درجة ثقافتنا ووعينا أمام الناس، لا نتشدق ونتملق، وأيضاً لا نعقّ ونتبذأ، ونلوك لحوم الآخرين في غيبتهم، أو نؤذي مشاعرهم في حضرتهم، وإلا فالصمت أجدى وأكمل للإيمان توثيقاً لحديثه - عليه الصلاة والسلام -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))، قال عيسى - عليه السلام -: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به". عمر بسند ضعيف، وقد رواه أبو حاتم بن حبان في روضة العقلاء، والبيهقي في الشعب موقوفاً على عمر بن الخطاب.
فضل الكلام الحسن
توجد منطقة في الدماغ يسميها العلماء: (دائرة المكافأة)، وقد لاحظوا أن الإنسان عندما يحصل على مكافأة مالية تنشط لديه هذه المنطقة بشكل كبير، وقد لاحظوا في تجاربهم الأخيرة أن الكلمة الطيبة تنشط هذه المنطقة مثلها مثل المكافأة المالية.
المنطقة هي: النقطة البيضاء في الصورة، فالكلمة الطيبة تؤثر على دماغ الإنسان، وتحدث نفس الأثر الذي تحدثه المكافأة المالية التي يحصل عليها الإنسان بعد بذله لمجهود ما، وربما نتذكر قول الحق-تبارك وتعالى- عندما أكد لنا أهمية الكلمة الطيبة والقول المعروف، وأنه خير من إنسان يعطي المال لفقير ثم يؤذيه بالكلام، فيشعره بفقره وحاجته، يقول - تعالى -: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [البقرة: 263]، ومن هنا ندرك لماذا اعتبر النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الكلمة الطيبة صدقة نتصدق بها على غيرنا، وهي صدقة لا تكلف شيئاً، فهو - عليه الصلاة والسلام - (لا ينطق عن الهوى)، جاء على موقع بي بي سي ما نصه: " قال علماء يابانيون: إن الإطراء على الناس له نفس الأثر الذي يحدثه المال من حيث تنشيط مركز المكافأة في المخ. وقد جاء ذلك في دراسة أعدها المعهد الوطني الياباني لعلوم وظائف الأعضاء، وقالت الدراسة: إن هذه النتيجة تعزز افتراضاً القول بأن الناس يحصلون على زخم نفسي عندما تكون سمعتهم طيبة"، وقال الدكتور نوريهيرو ساداتو من المعهد الوطني الياباني لعلوم وظائف الأعضاء: "إن الدراسة تشير إلى أن السمعة الطيبة تولد نفس الشعور الذي يتولد لدى المرء عند حصوله على مكافأة مالية"، وقام هذا الفريق باستخدام آلية لتصوير المخ -تعرف باسم التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي-، ورصد الباحثون نشاط المخ، حيث وجد أن الإطراء من الغرباء له نفس الأثر الذي يحدثه المال، من حيث تنشيط مركز المكافأة في المخ، حيث يشبع المديح عند الإنسان الحاجة إلى الانتماء، وقال ساداتو إن نتيجة الدراسة تعد خطوة أولى نحو تفسير السلوكيات الاجتماعية البشرية المعقدة، مثل: إيثار الغير، وقد تبين بنتيجة سلسلة من التجارب أجريت في مختبرات جامعة ستانفورد؛ أن في دماغ كل منا منطقة تنشط عندما يتلقى الإنسان جائزة، أو مكافأة، أو مبلغاً غير متوقع من المال، ووجدوا أن النساء أكثر تأثراً بالكلمة الطيبة، وأكثر تفاعلاً معها، ومن هنا ربما ندرك لماذا أوصى النبي الأعظم الرجال بالنساء وليس العكس، قال نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -: ((استوصوا بالنساء خيراً))!، ولذلك نجد أن الإسلام يهتم جداً بالكلمة الطيبة، حتى أن الله - تعالى - شبَّه الكلمة الطيبة بشجرة عظيمة تعطي الثمار كل سنة، أما الكلمة الخبيثة فهي كشجرة خبيثة ليس فيها ثمار ولا فائدة منها، بل إن أضرارها كثيرة، فهي غير مستقرة، ويمكن أن تقع على الأرض، وتؤذي من يقف تحتها، يقول - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّه الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [سورة إبراهيم:24 -26].
فوائد الكلمة الطيبة:
1- (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [سورة فصلت:34]، الكلمة الطيبة ملينة للقلوب، مهتكة لأوصال الشر وحبال الشياطين، مزعزعة للتوجس من نيات الآخرين، والامتحان الحقيقي لقدرتك على ممارسة الكلمة الطيبة، عندما تتعرض لإساءة من الآخرين سواء أكانت سخرية، أم استهزاء، أم غيبة فما أجمل أن ترد على ذلك بكلام يهدئ النفوس الغضبانة، أو دعوة تجهر بها أمامهم تمحو القلوب المشحونة، وتصدم النفوس الخبيثة، ألم يذكر عند رسول الله النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة))، تصوروا أن كلمات طيبة قد تدخلنا الجنة وتعتق رقابنا من النار!، أو لا يكون أولى أن الكلمة الطيبة تدفع الأذى عنا في الدنيا من الخلق، وتلين قلوب من حولنا، وتبلغنا سُبل الصواب.
2- الكلمة الطيبة قد تكون سبباً في هداية شخصٍ من خلقٍ ذميم، أو تشيجع أحدهم لبلوغ الطريق المستقيم، فكما قال لقمان الحكيم: "القلوب مزارع، فازرع فيها الكلمة الطيبة، فإن لم تتمتع بثمرها؛ تتمتع بخضرها"، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها، ومعنى الهداية في اللغة: هي بلوغ الغاية السليمة أياً كانت هذه الغاية، وهداية شخص لن تعود فوائدها على الآخرين وحسب دوننا؛ لأن ((المسلم للمسلم كالبنيان يشده بعضه بعضا))، ولأن فائدته الأولى ستعود علينا بالدرجة الأولى مثل: طيب الخاطر والرضا عن النفس، الاطمئنان حين نرى شجر غرسنا وقد أثمر في من حولنا، دعوة من قلبٍ صادق أحسنا إليه بطيب الكلام في ظهر الغيب، فجاد علينا معروف دعائه نتزود به حين كل عثرة.
الكلمة الطيبة من الأعمال الصالحة التي نتوسل بها إلى الله؛ لتكون سبباً في قبول الدعاء، قد تكون سبباً لدخول الجنة والسكنى بأعلى درجاتها، فقد قال - عليه الصلاة والسلام – فيما معناه: ((قد يقول المرء كلمة من رضوان الله عليه لا يلقي لها بالاً يرفع بها في الجنة درجات)).
3- الكلمة الطيبة صدقة توازي الصدقة بالأموال، بل وتتعداها لأبعد من ذلك، صورة رائعة صورها أبو ذر في حديثه حيث قال: "إن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة.
4 - أن الكلمة الطيبة نوع من أنواع البِّر، و البر هو كما ذكر في الآية قال الله -تعالى-: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة:177]، فالبر لفظ جامع لخصال الخير التي تستهدف مرضاة الله - عز وجل -، وقد أشارت الآية إلى هذه الخصال جميعاً تصريحاً أو تلويحاً، وهي مع تعدد صورها تنحصر في ثلاث: "صدق العقيدة، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس"، لذا أردف ابن عمر - رضي الله عنه - قائلاً: "إن البر شيء هين: وجه طليق، ولسان ليّن".
5- الحرص على الكلمة الطيبة تؤصل المسؤولية في أقوال المسلم من منطلق العمل بـقاعدة: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
6- الكلمة الطيبة المحتسب أجرها لله بدون مقاصد دنيوية موجبة لرضا الله، الذي يكون سبباً في محبة الناس لنا، ومن ثم التوفيق في أموره كلها بسبب طلاقة الوجه وحسن الكلام، فمحبة المحسنين إلينا أقوالاً أو أفعالاً مشاعر لا إرادية غريزية فُطر الإنسان عليها كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "جُبلت النفوس على حُب من أحسن إليها، وكُره من أساء إليها"، فليكن ديْدنا دوماً كما قال ابن المقفع: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، تحدثوا بأحسن ما تسمعون"، فالإنسان حيٌ ضعيف، كلمة ترتقي به إلى سابع سماء، وكلمةٌ تهوي به إلى سابع أرض، فإذا تجرد قلب الإنسان من طبيعته أصبح إنساناً قاسياً، وكما قال أرسطو: "إن المرء هو أصل كل ما يفعل"، فلم نبخل على من حولنا بجودة الحديث، ثم نشتكي نحن فاقة من حولنا وجفافهم ونحن من أمسك عنهم مَعين الكلام، ترى ما نسبة هؤلاء بيننا والذين غادرتهم الكلمة الطيبة فأصبحوا قساة، تحجرت قلوبهم لا إرادياً من جسارة الأقوال التي يبادرون بها ولا يبالون، ومن ثم ردود الأفعال التي تقابلها، وتجمدت عواطفهم، وتبعثرت حِكمهم، وغفى الحُلم في جنباتهم، وسيطرت أمراض العصر على أرواحهم، وولجوا عالم القسوة العابثة التي تتلاعب في الإنسان الحر إحساساً وشعوراً وجسدا؟! وكل ذلك بسبب عدم قدرتهم على إتقان فن الحديث، والكلمة الطيبة، وإسقاطها من اعتباراتهم، رغم أنها سمه من سمات ديننا الحنيف، وركيزة من ركائزه، والذي يدخل في جنباتها جوانب عدة من فنون كثيرة، كـ(فن الذكاء الاجتماعي، فن سُرعة البديهة، فن الصمت، فن النصح)، وكل فن مما ذكرناه يحتاج لبحث مستقل لوحده؛ لنوفيه حق الحديث عنه، ولعله يكفينا فقط معرفة موضع الخلل الأول والأخير والذي يكمن في اللسان، وكما قال وليام جيمس: "إن أعظم اكتشاف هو: أن الإنسان يمكن أن يغير حياته إن استطاع أن يغير اتجاهاته العقلية".
أثر آفات اللسان على هدم العلاقات الاجتماعية
كم من كلمة قالت لصاحبها: دعني؟، لذا وجب أن تكون سمة المؤمن كما ورد في الحديث الشريف ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء))، لو تأملنا في كل عباده أمرنا بها سواء كانت صلاة جماعة، أو صيام، أو زكاة، أو حج، أو صلة رحم، أو غيرها من العبادات، لوجدنا القاسم المشترك بينها هي هدف واحد هو: الألفة والمحبة بين المسلمين، لذا كان جديراً بمثل آفات اللسان التي تورث العداوة والبغضاء بين الناس؛ أن يخصص الله لهم عقوبة شديدة في الآخرة عوضاً عن عقوبة الدنيا التي سأوردها بعد قليل، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة-، فقال –صلى الله عليه وسلم-: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لّمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) سنن أبي داود، وأيضاً عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً؛ فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ؛ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة". أخرجه أبو داود.
ولا عجب!، أليس الله حين وصف الوليد بن المغيرة في كتابه الكريم ذماً له قال: (همازٍ مشاءٍ بنميم)، وتقدمت هذه الصفة كل الصفات الكريهة الأخرى، فيه ككافر، ومعتدٍ على رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، أليست الغيبة أشد من الزنا..، لربما الزاني يتوب صاحبه فيغفره الله له، ولكن المغتاب يبقى ذنبه معلقاً حتى يغفر المُغتاب لآكل لحمه!، ألم يأتِ في حديث أبي هريرة قصة ماعز الذي جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلب منه أن يطهِّره من الزنا، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال: ((زنيتَ؟))، قال: نعم. ثم سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ثبت عنده زنا ماعز، فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم- رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم ترَ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجمَ الكلب، ثم سار النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مر بجيفة حمار فقال: ((أين فلان وفلان؟، انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار))، قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فما نلتما من أخيكما آنفاً أشدُّ أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها))، كل هذه الأحاديث المنفرة والمرهبة جعلتنا نتساءل لمَ هذا الذنب بالذات؟!، لم تأتِ سوره في القرآن إلا وقد تناولته وعيداً؟، ولم يكن مجلسٌ لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - إلا ووعظ عنه تنفيراً؟.
الجواب بسيطٌ جداً: ذنب اللسان بعيداً عن النظر في عقوبة الآخرة، هو الهادم الأول للقاسم المشترك بين العبادات التي نؤديها، وعليها هو المُسقط لروح العبادة ذاتها فلا ينالنا منها إلا التعب وحسب، ألم يقل الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان.
أثر آفات اللسان على المجتمع والعلاقات الاجتماعية
1- نفور المجموعة الواحدة أياً كانت (عائلة / أصدقاء / زملاء عمل) من بعضهم البعض، وربما قطيعتهم لبعض مهما كانت صلتهم وقوة إصرهم، ألا يكفينا قوله تعالى: (لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)!.
2- كثرة التبجح على المقربين بالكلام، أو الاعتداء عليهم بغيبة أو نميمة أو جدلٌ غير مهذب، تخلف ذكرى سيئة لم نكن يوماً نرجوها عند الآخرين، فكيف فيمن نحب ونُجل؟ كما أن مثل هذا الكلام قد يمحو كل معروف بادرنا به يوماً تجاه الآخرين -وكأن شيئاً لم يكن-، فلا يتذكرون إلا سيئاتنا.
ولو تأملنا قليلاً في حديث حبيبنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيِّئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلقٍ حسن)) رواه الترمذي ((أتبع)) الفاعل أنت، ((والسيئة)) هي المتبوعة، ((والحسنة)) هي التابعة، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال - جل وعلا -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، وهذا دليل أن الحسنات من شأنها أن تمحو السيئات، كما هي السيئات إذا تبعت الحسنات تمحها.
3- مهما توسمنا خيراً في أن من حولنا سيختلق الأعذار لنا بسبب بذاءة اللسان، كونه يعلم بياض قلوبنا، إلا أننا ذات يوم سنُصدم بردة فعله، وقد نخسر كل شيء نحبه، حيث إن لكل إنسان منا طاقة مهما بلغ صبره وعلا حُلمه، ولعلي هنا أتذكر قصة حكيمٍ مع ولده حيث إنه يصعب إرضاؤه، الأب أعطى ولده كيساً من المسامير وقال له: قم بطرق مسمار واحد في سور الحديقة في كل مرة تفقد فيها أعصابك، أو تختلف مع أي شخص، في اليوم الأول قام الولد بطرق 37 مسماراً في سور الحديقة، وفي الأسبوع التالي تعلم الولد كيف يتحكم في نفسه، وكان عدد المسامير التي توضع يومياً ينخفض، الولد مع الزمن اكتشف أنه تعلم بسهوله كيف يتحكم في نفسه أسهل من الطرق على سور الحديقة، في النهاية أتى اليوم الذي لم يطرق فيه الولد أي مسمار في سور الحديقة، عندها ذهب ليخبر والده أنه لم يعد بحاجة إلى أن يطرق أي مسمار، قال له والده: الآن قم بخلع مسمار واحد عن كل يوم يمر بك دون أن تفقد أعصابك، مرت عدة أيام وأخيراً تمكن الولد من إبلاغ والده أنه قد قام بخلع كل المسامير من السور، فقام الوالد بأخذ ابنه إلى السور وقال له: "يا بني قد أحسنت التصرف، ولكن انظر إلى هذه الثقوب التي تركتها في السور لن تعود أبدا كما كانت"، فعندما تحدث بينك وبين الآخرين مشادة أو اختلاف، وتخرج منك بعض الكلمات السيئة فأنت تتركهم بجرح في أعماقهم نادراً جداً ما يندمل، كتلك الثقوب التي تراها، أنت تستطيع أن تطعن الشخص ثم تخرج السكين من جوفه، ولكن تكون قد تركت أثر الجرح غائراً، لهذا لا يهم كم من المرات قد تأسفت له؛ لأن الجرح لا زال موجودا، جرح اللسان أقوى من جرح الأبدان.
4- القذف والغيبة والنميمة والعدوان على الآخرين باللسان هو نوعٌ من أنواع الظلم، والظلم يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ((أَيُّهـا النّاسُ إِنَّ دمائكم، وَأَموالَكُم، وَأَعراضَكُم، عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا، فِي شَهرِكُم هذا، فِي بَلَدِكُم هذا، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَمـا حَرَّمَ المَالَ وَالدَّمَ))، فالمسلم: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه مسلم.
وهذا دليل على أن جُرم اليد مساوٍ لجُرم اللسان، فالمتحدث في أعراض الآخرين بغير وجه حق هو شخص مزعزع الشخصية، عديم الثقة بنفسه، يبحث عن كماله في انتقاص الآخرين، ويظنُّ أنه يستُر بالغيبة عيوبَه، وأنه يضرُّ من اغتابه، وما علم أن أضرارَ الغيبة وشرورَها على صاحبها، فإن المغتابَ ظالم، والمتكلَّم فيه مظلوم، ويوم القيامة يوقَف الظالم والمظلوم بين يدي الله الحكمِ العدل، ويناشِد المظلومُ ربَّه مظلمتَه، فيعطي الله المظلومَ من هذا المغتاب الظالم حسناتٍ، أو يضع من سيئات المظلوم فيطرحُها على المغتاب بقدر مظلمة الغيبة، في يومٍ لا يعطي والدٌ ولدَه حسنة، ولا صديق حميم يعطي صديقه حسنة، كل يقول: نفسي نفسي، وفي الحديث: ((الربا نيف وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمَّه، وإن أربى الربا استطالةُ المسلم في عرض أخيه المسلم)).
هذا غير دعوةٍ تلحقه في الدنيا ممن ظلمه بلسانه، قد تفقدهُ كل ملذةٍ فيها، وتوقظ مضجعه، فدعوة المظلوم لا يُرد لها باب وتتلقفها الملائكة ((اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب))، فعن الحجاج بن صوان بن أبي زيد قال: "وشى رجلٌ ببشر بن سعيد إلى الوليد بن عبد الملك أنه يطعن على الأمراء، ويعيب بني مروان، فأرسل إليه الوليد والرجل عنده، فجيء به ترعد فرائصه، فأدخل عليه، فسأله عن ذلك فأنكر بشر، وقال: ما فعلت، فالتفت الوليد إلى الرجل وقال: يا بشر، هذا يشهد عليك بذلك، فنظر إليه بشر وقال: هكذا؟
قال: نعم.
فنكس رأسه، وجعل ينكت في الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: قد شهد بما علمت أني لم أفعله، اللهم إن كنت صادقاً فأرني به آية، فانكب الرجل على وجهه فلم يزل يضطرب حتى مات.
5 - الحديث في عيوب الآخرين، أو ممارسة سلطة اللسان بإطلاقٍ دون الحد منها، تجعل العيون تحدق على بذيء اللسان، وتبحث من ورائه؛ حتى تفضحه في حين هو يحاول ستر نفسه بتسليط الضوء على عيوب الآخرين ((من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) رواه الترمذي.
((ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته، حتى يفضحه بها في بيته). رواه ابن ماجة، والقاعدة التي يجب أن تكون نصب أعيننا دوماً: كما تدين تدان، ألم يقل الشافعي - رحمه الله -:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى *** وعيشك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكلك عورات وللناس ألســن
وعينك إن أبدت إليك مساوئاً *** فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعامل بمعروف وسامح من اعتدى***وعاشر ولكن بالتي هي أحسن
وحين حدوث ذلك سيعم اللغط، ويكثر الكذب، ويُستباح القذف لأغراضٍ شخصية مسقطين بذلك أمر الله، واعتبار الظلم وحدوثه قال السخاوي: "وقد روينا عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله- أنه قال: أدركت بهذه البلدة -يعني المدينة- أقواماً لم تكن لهم عيوب، فعابوا الناس؛ فصارت لهم عيوب، وأدركت بها أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس؛ فنُسيت عيوبهم".
فرحم الله عبدًا عرف قدر نفسه، فوقف عند حدّه.
6- الكذب والغيبة والنميمة والقذف وغيرها من آفات اللسان تجعل المجتمع متخاذلاً عن كل إيجابي، منشغلٌ بسفاسف الأمور وحياكة الأساطير، وتسيطر عليه ثلاثية ممقوتة تتمثل في: الشك، والتخاذل، والجحود.
أثر آفات اللسان على المجتمع التعليمي والثقافي خاصة
وسنتطرق بقليلٍ من تفصيل لأثر الغيبة والنميمة والقذف والجدل وقول الزور على المجتمع التعليمي والثقافي خاصة:
1- تعزيز الأنا، وتهميش دور الجماعة على حساب العمل، فعلى سبيل المثال: في مجتمعات شبه مغلقة، عملت عبر منظوماتها التنشيئية على تقنين ترتيبات تكاد تكون محنطة، تعيد إنتاج هالة تقديس فئة بعينها، إما لسنهم أو مركزاهم الاجتماعية، أو الإدارية، أو العلمية، على حساب تقويم من هم أصغر منهم عمرياً أو مركزياً.
هنا: يحضر الكذب كأسلوب لمقاومة الترتيبات الجامدة والصارمة، حيث يحتكر الكبار سلطة المعرفة والقرار على حساب آراء ومصالح ورغبات من هم أصغر منهم، أو أقل منهم ترتيباً، وتتبعه الغيبة، ومن ثم النميمة في محاولةٍ للحصول على حق ليس بحق، فآفات اللسان تنتشر اجتماعياً في المجتمعات التي يحضر فيها الضغط الاجتماعي بدرجة كبيرة، فتخنق عبره الحاجيات النفسية بالخصوص على حساب حاجيات اجتماعية تصوغها معزوفة أخلاقية تتسم بالتقوقع والجمود، ولا يتم عبرها الاعتراف بحق الفرد، أو بعض الجماعات المهمشة، في إثبات رغباتهم وآرائهم ومواقفهم، معزوفة غالباً ما تتناقض معها أسس التربية الصحيحة والإسلامية.
2- فقدان الثقة في قواد، أو في أعضاء المجتمع العملي الذي تنتشر به مثل هذه الآفة، ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر ((إن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) متفقٌ عليه، مما يجعل الإنسان لا يقدم على المكان بارتياح، بل بتثاقل شديد، وضغط نفسي كبير، وحذر شديد ممن كان من الواجب أن يمضي معهم نصف يومه، ومن المفترض أن يصبحوا معا كعائلة واحدة، فيصبح أداء العمل كعادة أقرب منه إلى العبادة، ومن هنا ينتج التقصير، وسيجد له صاحبه مبررات كثيرة لضغوطٍ تكاد تخنق حركته في ساعات العمل، فتجبره على مثل هذا التصرف.
3- انتشار الظلم والبخس في سبيل الانتصار للذات، إن لم يوجد ربٌ حكيم للعمل، وتوارى العدل تحت أجنحة المصلحة، قال يزيد بن ميسرة: "الكذب يسقي باب كل شر، كما يسقي الماء أصول الشجر".
4- انتشار الحسد والكراهية والحقد والدسائس والمكائد.
5- عدم البركة في العمل قال - عليه الصلاة والسلام -: ((الكذب ينقص الرزق))، وقال: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)).
6- آفات اللسان حين تنبت في مجتمع فإنها تؤهل الأرض لخصوبة معاصي عدة ذميمة: كالرشوة مثلاً، والاعتداء على حقوق الآخرين بغير وجه حق.
7- انتزاع الورع من المجتمعات التعليمية -وهي أحوج ما تكون إليه-، حيث إنها لا تنفصل عن التربية بل هي الوجه الآخر له، قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان.
8- اعتياد المجتمع الثقافي والأدبي على مثل هذه الخصال كسمة من سماتها، تُسقط هيبتها، وتُعدم فائدتها، إلا من لغطٍ وسخط ينقصها ولا يزيدها، قيل لبعض الحكماء: ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تتبين في يومنا هذا؟ قال: لأن الغيبة قد كثرت في يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة وهي النتن ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل دار الدباغين، لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة، لأنهم قد امتلأت أنوفهم منها، كذلك أمر الغيبة في يومنا هذا.
دور المربين وأرباب الفكر في معالجة آفات اللسان فيمن حولهم، وللمربين دور كبير في معالجة آفات اللسان، وسأتطرق لبعض الوسائل هنا، وإلا فالوسائل عديدة لمن أصلح النية لله:
1- التربية على مبدأ: لست ملاكاً ولا شيطاناً، فالملائكة عقول بلا شهوة، والشياطين شهوة بلا عقول، والإنسان جزء منه عقل، وجزء منه شهوة، فمن غلب عقله على شهوته فهو أقرب للملاك، ومن غلبت شهوته على عقله فهو أقرب للشيطان، وآفات اللسان هي من أعظم الشهوات التي يستلذ به اللسان، وحين يتيقن الآخر بأنه طبيعي جداً أن يخطئ ويصيب وليس ذلك عيباً، ولكن العيب أن يعلم بمواطن الخطأ ويستمر مُضياً إليه، سيجد أريحية كبيرة في أن يتقبل نفسه الأمارة بالسوء، ويصلحها بالتي هي أحسن.
2- اختراع ألعاب مع من حولهم؛ لتأصيل المعنى في النفوس، وغرس المبادئ الصحيحة بجو من المرح، مثلاً: كأن يطلب المربي أو المفكر بأن يقوم من حوله في إغماض عيونهم ثم يقول لهم: سأسألكم سؤالاً فإن كانت الإجابة بنعم ارفع يدك بدون أن تفتح عينك.
- هل قمتِ يوماً بغيبة إحدى صديقاتِك الجالسات هنا؟
- النتيجة ستكون أشبه بالصاعقة، فكل الموجودين رافعين أيديهم.
الآن يطلب منهم فتح عيونهم وأيديهم مرفوعة؛ ليقوموا باكتشاف حقيقة مؤلمة تُشعرهم بالخجل.
- هل قمتِ يوما ًبالكذب من باب أن تعطي لنفسكِ هالة من التميز؟
- أيضاً النتيجة مزرية، وهكذا...
هذه اللعبة ليست عوناً على الكذب بمنطق: الموت مع الجماعة أرحم، ولكنها من منطلق مصارحة الذات كوسيلة للمكاشفة، والمصارحة بين المجموعة الواحدة من خلالها سيستشف الشخص عدة أشياء:
1- التعود على المسؤولية ومجابهة نتيجة الخطأ دون حرج.
2- ليس عيباً أن أعترف بخطئي فكل الناس يخطئون.
3- كما أنا اغتبت أحدهم ونممت عليه، هنالك من قام بغيبتي والنميمة بحقي فـ(كما تدين تُدان).
4- الواجب حين اكتشاف الخطأ إصلاحه بأي ثمن، حتى لا ألقى الله وليس على وجهي مضغة لحم، وحتى لا يقتص الله مني في الدنيا قبل الآخرة، ولا أتعرض لدعوة مظلوم بسبب زلة لسان.
5- التعرف على الطريقة المثلى لتصحيح الخطأ، ومن ثم تعلم الطريقة المثلى لانتقاد الآخرين، فقد قال بعض الحكماء: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عنه فقد خنته، وإن قلته لغـيره فقد اغـتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته، فقيل: كيف نصنع؟ قال: تُكني عنه، وتعـرض به في جملة الحديث.
6- تدريب النفس على تقبل المخطئين بحقنا والصفح عنهم؛ لنكون نحن أفضل منهم، ونلبسهم جمائل عفونا مقابل إساءتهم، ونجعل أبواب قلوبهم مشرعةٌ للندم بلا حدود، فقد روي عن الحسن البصري: أنه كان يحب الرُطب، وقد علم أن هناك رجلاً اغتابه بالأمس، فقال لغلامه: اذهب إلى فلان وأهده هذا الطبق وقل له: إن سيدي علم أنك أهديته حسناتك بالأمس، وهو يهديك هذه الرطب اليوم على حبه لها، وقال له رجل: إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
3- تعويد من حولنا على اعتماد الحساب في كل شيء في حياتهم، من باب الإيمان بقاعدة: (وكل شيء أحصيناه)، كسُنة كونيه تعودهم على النظام، مثلاً: اقتراح التجربة ليوم واحد فقط أن ترافقنا الورقة والقلم نخط خطاً فيها كل ما ذكرنا الرسول - عليه الصلاة والسلام -، نهاية اليوم نحسب عدد الخطوط، لنفترض أنها كانت 15 نقوم بعملية حسابية بسيطة، صلاة على الرسول - عليه الصلاة والسلام - X عدد صلوات الملائكة علينا حين نصلي على الرسول صلاة واحدة، والأمر نفسه ورقه وقلم نسجل فيها كل مرة نغضب ونتفوه بكلمة سيئة، أو غيبة، أو قذف، أو جدل، نهاية اليوم نحسب سيئاتنا كاملة من منطلق الإيمان بـ(مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةٌ ولا كبيرة إلا أحصاها)، كوقفة قصيرة لحساب النفس تكشف القدر الحقيقي للشخص عند الله؛ لننشغل بأخطائنا عن أخطاء الآخرين، فمن لا يعرف عيوب نفسه فلا قدر لنفسه عنده.
4- عدم اللجوء إلى العقاب الشديد؛ لأن الخوف من العقاب من أهم الدوافع التي تجعل الشخص يلجأ إلى الكذب، وأن يكون العقاب إذا حدث عقاباً معتدلاً يتناسب مع نوع الخطأ، وأن يعرف الشخص بالأسباب التي أدت إلى اتخاذ القرار بعقابه.
5-أن يكون المربي وصاحب الفكر قدوة لهم.
6- نتجنب وضع الشخص عمداً في المواقف التي تشجعه على الكذب، وتضطره للدفاع عن نفسه من باب استكشاف المجهول، فإذا اعترف الشخص بخطيئته لا نعاقبه البتة؛ لأن العقاب يشجعه على الكذب، ولا يشعره بالأمن والطمأنينة نحونا، بل نكافئه على الصدق رغم العواقب الوخيمة التي خلفتها ذنوب لسانه، ونبصره بأهمية الصدق ومغبة تلك الذنوب.
7- هجر كل من يتصفون بتلك الصفات من منطلق الإيمان بقاعدة: من تكلم عن الآخرين لديك، فلا تأمنه من أن يتكلم عنك أمام الآخرين) فهي عادة يمارسها ولا يكلها.
8- انتهاج منهج أبي حنيفة في عقاب النفس وردعها عن ذنوب اللسان، فقد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلاّ تصدق بدرهم، فحلف فتصدق به، ثم جعل أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقا في عرض الكلام تصدق بدينار، ولعلها وسيلة سهلة في تأديب النفس، فهل من مشكلة إن عقدنا العزم على أن نأخذ عهداً مع الله أن نقوم بصدقة ندفعها بمبلغ ندفعه نحن مُسبقاً في كل مرة نسيء فيها استخدام ألسنتنا، أو نهجر الكلمة الطيبة، ونلازم الكلمة الفظة الغليظة التي تجرح شعور من حولنا كنوعٍ من التأديب لأنفسنا؟ لنجرب وسنرى النتائج، فالمعروف سهلٌ جداً إن عودنا أنفسنا عليه؛ لأننا بالأساس مفطورون عليه فلنبادر نحن في تأديب أنفسنا قبل أن يؤدبنا الآخرون على جُرم أقوالنا اللامسؤولة، ولنسأل نحن أنفسنا دوماً قبل أن نبادر بأي كلمةٍ نقوم باستدراكها أمام الناس، هل من اللباقة والضرورة أن أتكلم لأقطع هذا الصمت؟ ((فليقل خيراً أو يصمت)).
------------------------
هند محمد