في ظل عالم تحول لقرية واحدة بسبب ثورة التقنية والاتصالات، وفي ظل نسيج عالمي شديد التشابك والتداخل في أطره السياسية والثقافية والاجتماعية بين الدول والأمم وحرب الأفكار والمعتقدات، يصبح الموقف الفكري أو الشرعي الذي يغفل عن هذه الخلفية الأساسية في التصور للواقع سبباً رئيساً في غاية الهشاشة والضعف، كما أن هذا يمكّن أصحاب المشاريع الفكرية المناوئة للتصور الإسلامي من توظيفها في سياق النزال الثقافي بين الإسلام وخصومه، فالقوى النافذة والفاعلة في المنظومة الغربية لا تحفل كثيراً بفهم الإسلام أو تفهم منطلقاته بل ليس لديها استعداد مبدئي لذلك؛ فهي لا تريد إلاّ أن تسود ثقافتها ورؤيتها للحياة.
لقد ظل وعي الفكر الإسلامي لعقود عديدة ناضجاً إزاء مخططات التغريب التي تنسج خيوطها في النصف الآخر من الكرة الأرضية، وتساهم القوة المادية والهيمنة الحضارية والتاريخ الاستعماري في تشكيل جيوش فكرية وإعلامية في تنفيذها، ولكننا -مع الأسف- نشهد حالة من تردي الوعي بهذه الهجمة الاستعمارية الثقافية والعسكرية، مع توفر وسائل التوصل للمعلومة، وسهولة الرصد لمخططات الهيمنة الغربية، ولعل موجات الانكسار في التيارات الإسلامية ألقت بأثرها المشوش على بوصلة السفينة الإصلاحية، فاضطربت خطة السير نحو هدف التحرر من آصار الوهن وأغلال استبطاء النصر والتمكين.
لقد كان لدى علمائنا وسلفنا الصالح من الفقه والرؤية الثاقبة ما جعلهم يدركون جيداً مخططات الطوائف المنحرفة التي ربما سعت لتوظيف مكانتهم العلمية والشرعية في تمرير مخططاتهم وأجندتهم الخاصة، ولكن نظرتهم الشمولية لواقعهم الفكري والسياسي جعلتهم يتفطنون لمكر أهل الأهواء وإحباط مخططاتهم لتوظيف مكانتهم الشرعية والفكرية في تمرير مشروعاتهم الفكرية، ومن ذلك قصة الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الذي أراد أحدهم توظيف بعض آرائه ومكانته العلمية في التأليب على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوماً جلوساً؛ فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟، قالوا: ابن عمر.
فأتاه، فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟
قال: أنشدك بحرمة هذا البيت؛ أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟
قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟
قال: نعم.
فكبَّر يعني الرجل السائل!!
قال ابن عمر: تعالَ لأخبرك، ولأبيِّن لك عما سألتني عنه.
أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه.
وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه".
وأما تغيّبه عن بيعة الرضوان؛ فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه؛ فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان - فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان".
فقال ابن عمر: اذهب بهذا الآن معك.
إن المتأمل للتسويق الإعلامي الكبير لبعض الفتاوى المخالفة للسائد في الغناء والاختلاط يدرك أن القضية لا يمكن اختزالها في صورة "خلاف فقهي" يمكن مناقشته ومداولته في الأوساط الشرعية المتخصصة، بل يدرك أن ثمة مخططاً أكبر يستهدف ضرب حواجز الممانعة والمحافظة في المجتمع، والسعي الحثيث نحو خفض منسوب التدين في المجتمعات الإسلامية، كل مجتمع إسلامي بحسب درجة تديّنه ومظاهر استقامته، تقول الباحثة (شيريل برنارد) في تقرير مؤسسة (راند) الشهير الذي جاء بعنوان (الإسلام المدني الديموقراطي الحلفاء، الموارد، الإستراتيجيات): "ينبغي التمييز بين مختلف قطاعات التقليديين "الإسلاميين" وتشجيع القطاعات الأكثر قرباً من الحداثة، من مثل تشجيع المذهب الحنفي مقابل المذاهب الأخرى، وحثّ أصحاب هذا المذهب على إصدار آراء دينية وعلى ترويجها من أجل إضعاف الأحكام المتأثرة بالوهابية المتخلّفة".
ومن نافلة القول هنا بأننا لا نريد اتهام كل طالب علم قال بقول فقهي مخالف للسائد في بلده بأنه شريك في هذا المشروع أو الطعن في نيّته أو الاجتراء على تسفيهه وتضليله؛ فهذا لون من التعدي والبغي غير المبرّر، ولكن هذا لا يمنع من توظيف مواقفهم النابعة من قناعات ذاتية في المشروع التغريبي، ولهذا يقع البعض في الخلل عند المعالجة باختزالها في إشكالية موقف المجتمع، أو طلاب العلم من الخلاف الفقهي، أو من الشخص القائل بخلاف القول السائد.
ومما يُعين المراقب على التأكد من الأبعاد الحقيقية لهذه المعارك والقضايا، أن يرصد موقف المؤسسات الإعلامية والنخب الفكرية من الإسلام كشريعة ومنهج حياة بعيداً عن الخلاف الفقهي السائغ، والمواقف الفكرية المصلحية التي يتسع فيها المجال للاجتهاد والآراء المختلفة، عبر رصد مواقفهم وخطهم الفكري في جميع البلاد الإسلامية، وقضايا الأمة الكبرى.
إننا نجد أن هذه المنصات الإعلامية والنخب الفكرية في الحالة السعودية مثلاً ترثي لغياب التنوع الفقهي والفكري في المجتمع وغياب أقوال بعض الفقهاء في القول بكشف الوجه، ومحبة الكافر محبة فطرية، وصلاة الجماعة، والإسبال واللحية والاختلاط، ولكنك لو قلّبت ناظريك لموقف تلك المنصات الإعلامية والنخب الفكرية نفسها في بلد إسلامي آخر كمصر مثلاً، والذي يقول العديد من مشايخها وعلمائها بهذه الفتاوى لوجدت أن موقفهم من هؤلاء العلماء هو موقف العداء والاتهام بالتشدّد والإقصاء، ووجدت -تلك النخب- تصطف مع التيارات التغريبية الاستئصالية ضد ثوابت الإسلام وقطعياته، ولو انتقلت مرة ثالثة لرصد موقف تلك المؤسسات والنخب من قضايا الأمة الكبرى كقضية فلسطين لوجدت موقفاً عدائياً من كل حركات التحرر والمقاومة، والتسويق لكل مشروع يرسخ الوجود الاستعماري لإسرائيل وغيرها في بلاد المسلمين، ومن هذا الرصد يتجلّى للمتابع غياب مصداقية تلك المنصات الإعلامية والنخب الفكرية، وأنها تلعب بورقة "الخلاف الفقهي" كخطوة مرحلية نحو مشروع كبير.
ينبغي على الدعاة والمثقفين الغيارى عند تصديهم لهذه الملفات المعقدة أن يتجاوزوا "ظواهر الحدث" إلى رؤية سابرة ومعمقة وشاملة لحقيقة وأبعاد التدافع الثقافي والحضاري بين الإسلام ومنظومة التغريب بأدواتها الثقافية والإعلامية، وهذا لا يعني إغلاق باب المراجعة والنقد بل يجدر بهم السعي في صياغة رؤية إصلاحية للمجتمعات والأوساط الشرعية، بعيداً عن توظيفهم ككاسحة ألغام لكتيبة الاختراق الثقافي التغريبي الذي تشهده المجتمعات الإسلامية على أكثر من صعيد.
--------------------------------------