موضوع: تربية الأبناء في ظل التحديات المتسارعة الثلاثاء يوليو 20, 2010 11:34 pm
مما لاشك فيه أن قلوبنا تخفق بالمحبة لأبنائنا وفلذات أكبادنا، ونتمنى من أعماق قلوبنا أن نراهم في أحسن الأحوال في الخلق والدين، وتربية الأبناء وتعهدهم ورعايتهم من المسؤوليات الهامـة والضرورية في ظل المتغيرات الحالية، والقيام بها من أولى هذه المسؤوليات التي اهتم بها الإسلام، وألقاها على الوالدين بالدرجة الأولى والمجتمع بما فيه من مكونات ومناهج دراسية وتربوية، ومؤسسات إيمانية، وتعليمية، وإعلامية، وغيرها، وما لها من منافع مشتركة بين الآباء والأبناء، وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات، ويحملون الكثير من صفاتهم وسلوكياتهم، قال - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
وتربية الأبناء وتعهدهم هي الخطوة الرئيسة والتحدي الهام الذي يتوقف عليه مستقبل الأمة المسلمة، وخاصة في زمن كثرت فيه المغريات، وظهرت فيه التيارات، وانتشرت فيه الرذيلة، والفساد، وانحرف بعضهم عن جادة الطريق بالآثام والمعاصي وغيرها، يُساعد في ذلك قوى الظلم والطغيان بما يملكون من قوة مدمرة، وتحولات تقنية متسارعة ومذهلة، ونفوذ على الأرض، كل ذلك لغزو الأمة المسلمة فكرياً وثقافياً ونفسياً وعلمياً وصحياً، وفرض تحديات واقعية على شبابها، لجعلهم في اضطراب دائم، ليس لهم نهج أو خطة أو هدف، أوضاعهم الصحية والمعنوية والنفسية في تدهور مستمر، لا يتمكنون من عمارة الأرض والقيام بأمانة الاستخلاف والعبادة، "فلا يقيمون وزناً للدار الآخرة والإيمان بالله في أمور الحياة الدنيا التربوية والاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، وفق خُطَّة مدروسة ونهج محدّد وأهداف واضحة لديها" (1). وقد أدرك ذلك الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - وتلاميذ مدرسة النبوة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فكانوا عيوناً ساهرة تراقب الأبناء قبل أن تعصف بهم ريح الشيطان إلى مهاوي الردى، ومزالق الانحراف وطرق الضلال، فعملوا على بنائهم، انطلاقاًً من المسجد منارة العلم والنور والتربية والتوجيه والبناء والتعهد، إدراكاً منهم أن الأمة لا يمكن أن تنهض إلاّ برجالٍ أخلصوا النية لله، واجتهدوا في بناء فلذات أكبادهم وتربيتهم التربية الإيمانية الصالحة لكل الأزمان والعصور، فكانت النتيجة أنهم استطاعوا تغيير المجتمع الجاهلي والمتخلف الظالم إلى مجتمع متقدم متعلم يسـوده العدل والرحمة والإحسان، والمحبة والمساواة، متخلصاً من العصبيات الجاهلية التي كانت تعصف بالمجتمع. ومن الأهمية بمكان إدراك أن مهمة التوجيه والإرشاد وتربية الأبناء مهمة شاقة، ومن أعظم المهام التي يقوم بها الإنسان المسلم في حياته الدنيا، للخروج من الذل والهوان والإحباط الذي تعيشه الأمة المسلمة إلى القوة والعزة والمنعة، لنيل رضا الله والأجر العظيم، ولكي يتمكن الوالدان من رسم معالم الطريق لأبنائهم، بتربية صالحة، وسعادة في الدارين. ونحن جميعاً مسؤولون أمام الله بواجب الرعاية، والتعهد، والبناء، التي أمرنا الله بها، وهل تمت مراقبة الأبناء وتوجيههم بالإشراف الدقيق عليهم، وبذل كل الوسائل الإيمانية والتربوية لتنشئتهم على الإيمان والخُلق والفضيلة؟! وهل كنا قدوة حسنة لهم؟! هل رأوا فينا نحن الآباء والأمهات أمثلة صادقة يحتذى بها؟! هل رأوا فينا الاستقامة والأمانة، والصدق والعفاف، والنهج والتخطيط، والتزام كتاب الله وسنة نبيه الكريم؟! هل حاولنا تنمية قدراتهم ومواهبهم بالتدريب على أهم قواعد الممارسة الإيمانية والتطبيق، من أجل المساهمة في بناء أمة قوية قادرة على استيعاب تلك التغيرات المتسارعة، والتحولات الحادثة في عصرنا، لحماية الروابط الإيمانية بين أبناء الأمة، فإن كنا كذلك فالحمد لله، وإلا فيجب محاسبة النفس، وتعديل المسار، وتصحيح الطريق، والشعور بعظم المسؤولية، من خلال التربية والتعليم والبناء والتعهد، وتفعيل ذلك في نفوس الأبناء والبنات. قال الله - تعالى -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية: 15]. ولقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ورزقه من النعم ما لا يعد ولا يُحصى، ليستطيع أن يؤدي رسالته التي خلقه الله - عز وجل - من أجلها، فعمارة الدنيا، والقيام بالاستخلاف في الأرض تعتمد في المقام الأول على تربية الطاقة البشرية الإنسانية تربية إيمانية صالحة، والتنشئة المعتمدة على حب الله ورسوله والمؤمنين، ونهج مدرسة النبوة الخاتمة، ومن أجل الوفاء بالعهد والنهوض بهذه المهمة العظيمة، فلا بد من أن يتوافر لنا نحن المسلمين أُسس واضحة ثابتة ونظريات تربوية ينطلق منها المسلم، وبها يستنير دربه، ونحن الآن بأمس الحاجة إلى مثل هذا النوع من النظريات المتماسكة والملبية لحاجة الواقع، لملء الفراغ القائم في الساحة الإسلامية، ولكي نتمكن من الوقوف في وجه الغرب الزاحف علينا بكل قواه الشرسة ونظرياته الوثنية المختلفة، والقائمة على الانحراف والظنون والأوهام(2). وقد فضل الله - تعالى - الإنسان على سائر مخلوقاته بما حباه من عقل يساعده على التفكير والاختيار، ويحدّد طريقته في الحياة، إما خيراً أو شراً، وبالتالي يحدّد مصيره في الآخرة، إما إلى النجاة والفوز أو الهلاك والخسران، "والإنسان قد يحوّل نعمة الله عليه إلى فتنة وفساد وشرور أو إصلاح وخير" (3). فالتربية والبناء والتعهد من ضروريات الحياة الملحة للمجتمع المسلم التي يفرضها الواقع، "لبناء الجيل المؤمن والشخصية المؤمنة المتوازنة، وفي ذلك صلاح للإنسان وخير للبشرية، يمضي بها المؤمن على صراطٍ مستقيم، وبأهداف ربانية ثابتة يمضي بها إلى الهدف الأكبر والأسمى الجنة والدار الآخرة ورضوان الله" (4). إن الأبناء من نعم الله علينا، وإن من الواجب علينا تجاه النعم المحافظة عليها وبذل الغالي والنفيس من أجل صيانتها، وإن كل عاقل يدرك أن صلاح الأبناء هو من أعظم النعم بعد نعمة الإيمان، وأن الوالدين لو ملكا الملايين من الأموال ثم كان لهم أبناء غير صالحين فإن هذه الأموال لا تساوي شيئاً. من هنا تبرز بوضوح مسؤولية الوالدين في تلك المهمة الشاقة جداً، "ويتجلى الجهد المضني الذي تستدعيه هذه الغاية، ويظهر للعيان الأثر الخطير والنتائج الجلية التي تنبثق عن النجاح أو الفشل فيها رفعة وسؤدداً أو انهياراً، وما أصدق قول القائل: أخبرني عن شباب الأمة أخبرك عن مستقبلها" (5). قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وكم ممن أشقى ولده، وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد- رأيت عامته من الآباء". كما عاتـب بعضهم ولده على العقوق، فقال: "يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً" (6). لذا يجب على الوالدين أن يستشعرا عظم المسؤولية بغرس القيم النبيلة والمبادئ الحميدة في نفوس أبنائهم، وتوثيق الصلة مع المؤسسات الإيمانية والتربوية، لتتكامل تربية الأبناء على مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، وحذارِ من التركيز على الجوانب المادية في تربية الأبناء، وإهمال الجوانب الروحية والمعنوية. والتربية لغة: بمعنى " الزيادة، والنشأة، والتغذّية، والرعاية، والمحافظة، وهي مشتقة من: ربا الشيء رَبْواً وربُوَّاً: نما وزاد " (7)، قال - تعالى - عن الأرض: (...هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ...) [الحج: 5]. أي: زادت وانتفخت، وتُستعمل مجازاً بمعنى" التهذيب وعلو المنزلة "(، "وربّ القوم أي ساسهم "(9)، وقيل: هي "بمعنى علوّ الشأن والارتفاع" (10)، والظاهر لنا أنها: النمو والزيادة. والتربية اصطلاحاً: عُرِّفت بتعاريف كثيرة مختلفة، فأحدهم يراها" طرقاً ووسائل لتنشئة الطفل وتكوينه على النحو المراد، ويراها ابن سينا بأنها عادة "(11). وقد عرفها الداعية الإسلامي السيد سابق بأنها " إعداد الطفل جسمياً وعقلياً وروحياً ووجدانياً واجتماعياً حتى يكون عضواً نافعاً لنفسه وأمته "(12). وقد ذكر ابن القيم تعريفاً علمياً بأنها " ما يحدث لدى الفرد أو المجتمع من آثار في الأفعال والسلوك بسبب إنسان آخر وبإرادته وهي تتجه في غايتها إلى الحرص على المحافظة على فطرة الناشئ ورعايته وتنمية مواهبه واستعداداته كلها "(13). هذا وقد طرح المفكر الإسلامي الدكتور عدنان النحوي تعريفاً للتربية بأنها "بناء الإنسان فكراً وتصوراً إيمانياً وعقلاً متدَّبراً ونفسية خاشعة وعاطفة صادقة، وإعداده للوفاء بأمانته وعهده في الحياة الدنيا"، ويضيف لتوضيح الصورة لنظريته التربوية في الإسلام فيقول: " نظرية التربية في الإسلام تقوم على ممارسة منهاج الله قرآناً وسنة ولغة عربية في ميدان التربية والبناء، والإعداد والتدريب للإنسان" (14). والتربية الحقيقية في سياق ذلك هي التي يُغذيها المسجد وتنطلق منه لممارسة منهاج الله في واقع الحياة ممارسة صادقة وأمينة وعادلة طاعة لله وعبادة له، لتكون سعادة الإنسان في الحياة الدنيا وصلاحه، وهي مسؤولية الإنسان، وعلى الأمة توفير سبل ذلك بما يناسب رسالة التربية الربانية، لتصبح تربية إيمانية قائمة على أساس العلم بمنهاج الله والتطبيق العملي في الواقع، بنهج يوفر الزاد الضروري واللازم مصحوباً بنظام إداري ينسق الجهود ويبين الحدود ويعين على سلامة الممارسة الإيمانيـة لمجابهة الأحداث الجارية والمتلاحقة مجابهة إيمانية، لتأخذ صورة حقيقية من صور التربية في حياة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين رضي الله عنهم (15)، ولقد أعطى الإسلام أهمية كبيرة لتربية الأبناء، وعنى بهم عناية فائقة، كيف لا وهي تمثل نهجاً ممتداً امتداد الحياة، لذلك أهتم المعلم الكبير والمربي العظيم صلى الله عليه وسلم بها، وقد نظمّ لها قواعد من حيث السلوك والمواقف، وفي كل مناحي الحياة. ونظرية التربية في الإسلام للدكتور عدنان النحوي، اهتمت اهتماماً بالغاً بتربية الأبناء والنساء وتعهدهم، وترتيب البيوت، من خلال وضع الأساليب والوسائل والبرامج والخطط اللازمة لاستيعاب الأبناء والبيوت، وليكونوا قلعة حصينة من قلاع المجتمع والأمة المسلمة، ولا غرو في ذلك، فالأبناء هم أمل الأمة المشرق ومستقبلها الزاهر، فالتربية إذاً ضرورة ملحة يفرضها الواقع، وليس كالتربية التي أفرزتها المجتمعات الغربية، فقد أورد الدكتور عدنان النحوي في كتابه " التربية في الإسلام: النظرية والمنهج " ما قاله رئيس أمريكا ريتشارد نيكسون في كتابه ما وراء السلام: " من انهيار للقيم، وانعدام روح الانضباط، وغياب أي إحساس بالحق والباطل من نفوس كثير من الشباب، وخاصة القاطنين في الأحياء الفقيرة التعيسة في المدن الداخلية التي هي المفاقس المولّدة للعنف المجنون "(16). والمتدبر لمنهاج الله يلمس بكل وضوح وجلاء تلك العناية الفائقة التي أولاها المولى - عز وجل - في كتابه الكريم بذكر الكثير من صور الحب والرحمة والرفق بهذه الشريحة الهامة من المجتمع. فقال - تعالى -: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 1ـ4]. (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً) [مريم: 7]. (إن اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران: 45]. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان: 74]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6 ]. وآيات كريمة أخرى تتوالى تؤكد هذا المعنى. ويجب علينا نحن المسلمين أن لا نمر على ما جاء في الأحاديث الشريفة، وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح مروراً عابراً، بل يجب أن نستخلص الحكمة، والعبرة، والأسلوب، والطريقة، والهدف التربوي من وراء تلك الأحاديث والسيرة، ونفكر بها تفكيراً إيمانياً يقودنا إلى المكانة، والرفعة، والسؤدد، فقد جاء في الأحاديث ما يلي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي - رضي الله عنه -، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً"، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((من لا يَرْحم لا يُرحم)) (17). وعن ابن عمر- رضي الله عنهما - قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ولد في أهل بيت غلام إلا أصبح فيهم عزُّ لم يكن)) (18). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لولا عباد لله ركّع، وصبية رضّع، وبهائم رتّع، لصب عليكم العذاب صباً)) (19). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته)) (20). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) (21)، وفي رواية أخرى عن معقل بن يسار- رضي الله عنه- عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيّةً فلم يحطها بنصحه إلاّ لم يجد رائحة الجنة)) (22). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) (23). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك)) (24). ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (25). ويقول صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين...)) (26). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((اللهم علمه الكتاب))، وفي رواية: ((اللهم علمه الحكمة))، وفي أخرى: ((اللهم فقه في الدين)) (27). وقد حفل التاريخ الإسلامي بوصايا رائعة ومعبرة للآباء والمربين للأبناء والقائمين على شؤونهم، فيُؤثر أن عمر بن الخطاب قبّل أحد أطفاله أمام والٍ من ولاته، فقال له الوالي: أتقبّل أطفالك يا أمير المؤمنين، فو الله إننا لا نفعل، فقال عمر: " وماذا أفعل إذا كانت الرحمة قد نزعت من قلوبكم"؟ وما كان منه إلاّ أن عزل ذلك الوالي، لأن من لا يعطي الحنـان لأبنائه لن يعطيه لغيرهم من المسلمين، وحين يسوسهم بالغلظة والقسوة فلن يفلح "(28). وقد قرّر الإسلام حقوقاً للأبناء على الوالدين منها " العناية به جنيناً قبل أن يولد، من خلال الأمور التالية: حسن اختيار الأم، والعناية بصحة الأم الحامل الجسمية والنفسية، وحفظ حق الجنين في الميراث فيما إذا توفى والده، ومراعاة صحة الجنين، والعناية بالطفل بعد الولادة، من خلال: حفظ نسبه، وحسن اختيار اسمه، وحقه في الرضاعة، والحضانة، والنفقة، والتربية والتعليم، وغيرها من الحقوق التي شرّعها الإسلام لأبنائه قبل خمسة عشر قرناً "(29). قال - تعالى -مادحاً نبيه إسماعيل - عليه السلام -: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) [مريم: 55]. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا...) [طه: 132]. وقد جعل الإسلام تربية الأبناء تكليف شرعي، وواجب ديني، وتصوّر إيماني، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم)) (30)، وقال علي - رضي الله عنه -: " علموهم وأدبوهم " (31). يقول ابن القيم - رحمه الله - منبهاً إلى أهمية دور الأسرة في التربية: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً. فدور الوالدين في تربية الأبناء هام جداً، فعليهم أن يزيدا من جرعات الحب والحنان لهم، ويتقربا منهما ويغرسا في نفوسهم الخصال الحميدة والمبادئ القويمة، وأن يكونا قدوة حسنة في سلوكياتهم أمام الأبناء، فتصاغ شخصية الأبناء من خلال إكسابهم الصفات الحسنة، وتجريدهم من الصفات السيئة، كما يجب على الوالدين أن يوحدا أسلـوب تربيتهما ورعاية أبنائهما جسمياً، واجتماعياً، وعقلياً، ونفسياً، وصحياً، وسلوكياً، ودينياً وأخلاقياً، وعلمياً، لبنائهم أفضل بناء، وتعهدهم أفضل تعهد، من أجل أن يواصل الأبناء حياتهم بكل ثقة وثبات أمام تحديات الواقع، ويصبحوا عناصر فاعلة في بناء الأسرة والمجتمع، فبهم ترتفع هامات الأمة وتتقدم، من نصرٍ إلى نصر، ومن عزٍ إلى عز، ومن رفعة إلى رفعة. ومن الأهمية بمكان أن يفهم الوالدان المتغيرات الحاصلة، وكيف يتجاوبان برفق وحزم في آنٍ واحد مع مشاعر الأبناء، كما ينبغي أن تكون المعاملة ثابتة على مبادئ نابعة من منهاج الله، " فلا تمدح اليوم ابنك على شيء زجرته بالأمس على فعله، ولا تزجره إن عمل شيئاً مدحته بالأمس على فعله "(32). والتربية السليمة هي ما ذكرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((إنما العلم بالتعلم)) (33). والأبناء هم مشاعل الأمة يحملون على عاتقهم همومها، وهم شعاعها الحقيقي من النور لكي يسير خلفهم من أبناء الأمة، فالحذر كل الحذر من الغفلة عنهم، أو من انتهاج أسلوب التدليل والتفريط في المعاملة، أو كل ما يزرع عدم الثقة في النفس، والجبن والخوف والهلع، والتهور، والتطاول على الآخرين، والميوعة والفوضى، والترف والنعيم والبذخ، وتسميتهم بأسماء سيئة، وتجنيبهم أسباب الانحراف الجنسي، وتربيتهم على الصراحة والصدق في التعامل، في ظل قوى كثيرة وافدة مؤثرة في عملية التربية، ومما ينبغي أخذه بالاعتبار أثناء تربية الأبناء ببذل الجهد والوقت في متابعتهم، وتوجيههم أخلاقياً، فالأمانة، والتواضع، وآداب الأكل والجلوس والحديـث، والنوم المبكر، والاستيقاظ المبكر، والصدق وعدم اللغو، واستغلال الوقت بما هو مفيد، كقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وحفظه، والسمع والطاعة لوالديه ومعلميه والعلماء، والمحافظة على أداء الشعائر، والتزام المسجد، وإنزال الناس منازلهم، ورد الأمور إلى منهاج الله، وتعليمهم أسلوب الحوار الهادف والمفيد، ومهارة الكلام، ومعايشة البلغاء والفصحاء، وأهل الخبرة والتجربة، وحضور الندوات والمحاضرات والمحاورات، والاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والوضوح في الكلام، وعدم التكلف، والإيجاز والبديع من: سجع، وجناس، وطباق، وتورية، والإطناب، والصور البيانية، والإلقاء الجميل، وتنوع الأساليب، من خلال الاهتمام باللغة العربية الفصحى وقواعدها، والذوق الاجتماعي الرفيع، والثقة بالنفس، والجرأة على طرح الأفكار البناءة، وعدم الغضب، ومحاسبة النفـس، والتفكير الإيماني، ووضع الخطط، وتحديد الأهداف، والاهتمام بقضايا الأمة المسلمة وغيرها من الأخلاق الحميدة هي التي يجب أن نغرسها في نفوس الأبناء، وهي البرهان الحقيقي لمدى تحمل الوالدين كمسئولين عن هذه الفئة الهامة في المجتمع. ولتحقيق هذه الخصال الحميدة يمكن الاستعانة بالوسائل والأساليب الناجعة والفاعلة والمشروعة: كالقدوة الحسنة في شتى مناحي الحياة، واستخدام أسلوب الترغيب أحياناً والترهيب أحياناً أخرى، لما لذلك من مردود حسن على الأبناء، " فالثواب يُعزز العمل الإيجابي لدى الطفل، مما يدفعه دائماً إلى الإقدام على النافع والمفيد من الأعمال والأخلاق كما أنه يعيد حالة التوازن النفسي، ويقوي ثقته بنفسه "(34). وقد " شرع الإسلام العقاب شريطة أن يكون مبرراً، وأن لا يبلغ حد الضرر والإيلام الشديد، سواءً كان ماديـاً كالضرب غير المبرّح أو معنوياً كالهجر، وهذا ما نحا إليه الغزالي والقابسي وغيرهما "(35). ويُذكر " أن التربية لا تؤتي ثمارها إلا إذا قامت على أساسين اثنين: الرغبة والرهبة، وإنما ينبغي أن يكون البدء باستعمال الأولى منهما، حتى إذا لم تُجْدِ نفعاً، وكان الطفل قد وصل من الوعي حيث يدرك معنى الرهبة وآثارها دون أن يجدي معه الترغيب كان لا بد من استعمال الوسيلة الثانية "(36)، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت، فعن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علقوا السوط حيثُ يراه أهل البيت، فإنه أدبٌ لهم)) (37)، لردع من تسول له نفسه بأن العقوبة له بالمرصاد إذا أخطأ أو أضل الطريق، وليكون باعثاً لهم على التخلّق بالأخلاق الفاضلة، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت في أدب اليتيم: " إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط، أي (يعتدل) "(38)، وقال الإمام أحمد: " اليتيم يؤدب ضرباً خفيفاً "(39)، وعند الضرورة يُمكن استخدام العقاب النفسي، والتربية بالمحاكاة والإيحـاء والتقليد والمداعبة والممازحة، فقد ذهب ابن خلدون إلى القول بأن " الطفل يتعلم بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذه بالنصح والإرشاد "(40)، وكذلك التربية بالعبرة والموعظة الحسنة والتذكير، والممارسة والعمل، وبالتدرج، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: أحفـظ الله يحفظك، أحفظ الله تجـده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) (41). "وتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحادثة والموازنة العقلية، وكذلك بالمقايسة والتمثيل والتشبيه، والرسم على الأرض، وتأكيده التعليم بالقسم، وتكراره صلى الله عليه وسلم القول ثلاثاً لتأكيد مضمونه "(42). ومن الأساليب التي ذكرت في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم سرد القصة، حيث قص الله - سبحانه وتعالى - عليه سير الأنبياء السابقين، بقصد الاعتبـار والاتعاظ منها، كما جاء في كتاب الله - تعالى -: (لقد كان في قصصهم عبرة) [يوسف: 111]، والتربية بضرب الأمثال، والتربية بالحوار القرآني والنبوي، والتدريب من خلال البيئة الصالحة على دراسة الواقع دراسة منهجية من خلال منهاج الله، والمصادر الأخرى الموثقة لطلب العلم، والتمييز بين الحق والباطل، وقضايا الممارسة الإيمانية الأساسيـة في حياة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والأمة المسلمة، وغيرها من الوسائل التي من الممكن أن تعمل على تربية الأبناء وتُؤتي ثمارها الخيّرة بتجنيبهم حبائل الشيطان، والوقوع في ما لا يرضي الله - سبحانه وتعالى - ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ومما يجدر ذكره في هذا المقام تجنيب أبنائنا الآثار السلبية للعولمة، ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة، وتوجيههم الوجهة الصحيحة للاستفادة منها، والتكيف معها لصالحهم، وتسخيرها في مجال التربية والتعليم، وتثبيت العقيدة والدين والأخلاق، وما يمكن تحقيقه من أهداف، من خلال مراقبتهم وتوجيههم التوجيه الصحيح من الوالدين بمشاهدة بعض القنوات الفضائية التي تحمل رسالة سامية، وبرامج مفيدة دينياً وثقافياً وتربوياً، والاستفادة من الحاسب الآلي في الاطلاع على برامج إسلامية كبرنامج القرآن الكريم والحديث الشريف، وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبعض البرامج العلمية، والدخـول على بعض المواقع على الشبكة المعلوماتيـة- الإنترنت -، والاستفادة منها في الدعوة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجامعات المفتوحة، وبرامج التعليم عن بُعد، والتعليم الذاتي، والتعليم المستمر، وغيرها من الوسائل التعليمية والتربوية، والتي أصبحت واقعاً لا يمكن تجاوزه أو إهماله. " فالإنسان اليوم عليه مواجهة الحروب والتلوث وآثار العلاجات التي يبتكرها وغير ذلك من الآثار الجانبية للمخترعات الحديثة، وقد تنبهت الدول الكبرى لذلك وأصبحت تقيم تربيتها على أساس الأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات التي يمكن أن تحدث مستقبلاً وترسم الخطط لذلك "(43). وفي غمرة مشاغل الوالدين بأمور الدنيا قد يغفل الوالدان أو أحدهما عن إقامة دروس علمية بتخصيص وقت محدّد في يوم محدّد، يجلس فيه الجميع ليلتقوا لقاءً إيمانياً دورياً، يتعلّمون فيه الدين والأخلاق والعلم النافع، وتحمل المسؤولية وممارسة الطاعات، ومعرفة الحدود والواجبات، ورد الأمور إلى منهاج الله، وإنزال الناس منازلهم من خلال تطبيق ميزان عادل أمين، والمصارحة في الكثير من المشكلات التي تواجه أبنائهم ومراقبتهم ومتابعتهم، وتجنيبهم الثلاثي الخطر المكوّن من: الشباب والفراغ والمال، ففي اجتماعهم فساد وطيش وانحلال وتردي " ولذلك كان في منهج مدرسة لقاء المؤمنين مجلس العائلة أو الأسرة أسبوعياً ليكون أحد اللقاءات الخمس المقررة في المنهج "، فالحذر من ذلك، حيث يقـول الإمام الغزالـي في إحياء علـوم الدين: " الصبي أمانة عند والديه"(44)، فقد جاء الأمر النبوي بتعليم الصغار بعض الآيات لأهميتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم، فإنها صلاة وقرآن ودعاء)) (45)، وعن جندب بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: " كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن فتيان حزاورة، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا به إيماناً "(46)، كما أن السلف الصالح " كانوا يقدمـون الغالي والرخيص لترغيب أبناءهم في العلم، ويعطونهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة "(47)، وقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: " قال لي أبي: يا بني! اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلب الحديث على هذا " (48). وعلى الوالدين ألا يغفلا قدر الله - تعالى -، فربما اجتهد الوالدان في التربية ولكن لم ينجحا في ذلك، فلا تقنطا أيها الوالدين من رحمة الله والدعاء لأبنائكما، وتذكرا دوماً أن أبنائكما أمانة في أعناقكما، فلا تغفلا عنهما، ويحدث ما لم يكن بالحسبان ولات ساعة مندم. يقول الشاعر: خيـر ما درَّت الرجـال بنيهـم *** أدبٌ صالـحٌ وحُسـنُ ثـنـاءِ هو خيرٌ من الدنانيـر والأوراق *** في يـوم شـدَّةٍ أو رخــاء تلك تفنى والدين والأدب الصالح *** لا يـفنيـان حتـى اللـقـاء وهكذا نقدم للأمة والمجتمع المسلم جيلاً مؤمناً قوياً نفسياً وفكرياً، وعلمياً، قادراً على تحمل مسؤولياته، وقيادة البشرية إلى الخير والصلاح، متفاعلاً اجتماعياً، متفوقاً دينياً وعلمياً، فخوراً بما قدمه والداه من رعاية واهتمام وعدل. ولن يتمكـن الوالدان والبشرية جمعاء من القيام بهذه المهمة الجليلة، ما لم يكن هناك نهج، وتخطيط، ونظريات تربوية، ودراسات، ومؤسسات إيمانية ينطلقون منها، ونظام إداري ينظم لهم هذه الانطلاقة المباركة للاهتمام بتنشئة الأبناء، ولرسم الطريق الذي تُعرف فيه الأولويات، وتُرسّخ به الثوابت، وينهض به العمل الإسلامي، لينتج ثماره ومؤسساته الإيمانية الفاعلة، كل ذلك يعني أن الأمة التي تعلّم وتربي وتدرب وتهتم بتربية الأبناء هي الأمة المرشحة للتحصين من هذا الغزو الفكري والثقافي والإعلامي والاقتصادي والعسكري الزاحف علينا جميعاً. هذا، وأسأل الله - سبحانه وتعالى -- أن يأخذ بأيدينا وأيدي أبنائنا إلى ما فيه الخير والرشاد والسداد، ويَمُنّ علينا وعليهم بلطفه فيجنّبنا الزلل، ويجعلنا وإياهم هداة مهتدين، وأن ينفع بالأبناء الآباء والمجتمع والأمة المسلمة، وأن يثبتنا ويثبتهم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبـه ومن والاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ـــــــــــــــــــــــ نعيم كامل