بيت المقدس مبارك، ومبارك ما حوله، هو مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة، فيه أكثر الوحي نزل، وأكثر دم الشهداء أهرق في ساحاته، أولى القبلتين وثاني الحرمين، ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيه جمع الله إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومن شاء من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ليصلي بهم - صلى الله عليه وسلم - ركعتين صلاته بمكة: (وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) [سورة غافر].
هذا الحدث العظيم حدث الإسراء - لم يتجاوز ذكره في أكثر من آية واحدة: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)[سورة الإسراء آية 1].
يرى الكثير من المفسرين والمحدثين، أن الإسراء والمعراج جاء تسرية عن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواساة له بعد موت زوجته وعمه والمعاناة التي لقيها من قومه.
ولكني أرى أن الذي لقيه الرسول الكريم من معانات وتكذيب وتشهير وسخرية ومشقة... من قريش وأتباع قريش، بعد أن حدثهم عن الإسراء والمعراج، كان أقسى وأمر من الذي لقيه منهم قبل الإسراء؛ لأنهم رأوا في ذلك فرصتهم، التي لا تعوض للإجهاز على تكذيب الرسول والنيل منه.
فالمسألة إذا أكبر من مواساة، بل هي تكليف بمهمة جديدة، هي مهمة هيمنة الدين الجديد على كل الأديان السابقة، وكل البقع المقدسة، فالإسراء أدخل القدس ضمن مقدساتنا الدينية، وإمامة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء، كانت إيذانا بعولمة رسالته وخلودها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان. وخولت لنا " ولغيرنا من الأمم " شرعا عزل اليهود، لغدرهم وخيانتهم وكثرة آثامهم وجرائمهم في حق الإنسانية... وبالقوة عن منصب القيادة الإنسانية الروحية الدينية والأخلاقية والاجتماعية... ونقلت فعليا هذا المنصب القيادي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأمته من بعده، وأشهد الله على ذلك أنبياءه إبراهيم وموسى وعيسى... وأمين وحيه جبريل - عليه السلام -، والله خير الشاهدين.
إذن إن الإسراء لم يكن مجرد تسرية وتكريم وتثبيت لسيدنا محمد الله - صلى الله عليه وسلم -، تعويضا عما لقيه من كفار قريش، بل هو أكثر من ذلك، بدليل أن القرآن الكريم اكتفى بذكر الإسراء في آية واحدة على سبيل الإخبار فقط، ثم أخذ في فضح اليهود وذكر جرائمهم، وإفسادهم بقتل الأبرياء وسرقة أموالهم وتخريب ديارهم وحرقهم بالقنابل الفسفورية وقنابل الأورانيوم المخصب والنابالم، وبكل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، وما حرب غزة عنا ببعيدة... مع الوعيد الشديد بالعذاب الأليم. لأن الفساد متأصل فيهم جينيا، فهم الذين قتلوا أنبياءهم وعبدوا عجلهم وشتموا ربهم.
إذ نسبوا إليه كل نقيصة عرفوا بها – تعالى الله عن كل بهتانهم، علوا كبيرا-.
إلى جانب التنبيه بأن القرآن الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم -، يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الكبير.
الذي قد يكون هو النصر العسكري والتمكين الديني، الروحي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.... إلى جانب أجر الآخرة طبعا.
وصدق الله العظيم إذ يقوله - تعالى -: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء آية 9].
فإن لم يتبع اليهود التي هي أقوم: شهادة التوحيد والاعتراف بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، إمام القبلتين، ووارث الأنبياء السابقين، وإن لم يؤمنوا برسالته، وبكل ما ورد في القرآن الكريم من تشريعات وأحكام وأوامر ونواهي وإن لم يرعوا عن ظلمهم... ليسلطن الله وبعدله، عليهم عبادا له يسومونهم سوء العذاب إلى يوم القيامة. وصدق الله - تعالى - إذ قال: (... إن أحسنتم، أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذ جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أو مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) [سورة الإسراء آية 7] إن ربط البراق في الحلقة نفسها من باب بيت المقدس، التي كان الأنبياء بها يربطون، فيه دلالة عظيمة، على ضرورة الحفاظ على بيت المقدس وحمايته من أعداء الدين الجديد، وعلى وجوب الرباط والمرابطة بالأرض المقدسة لحراستها من الأعداء المتربصين بها في كل زمان، وإلا فما الحكمة من ربط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراق، وهو الدابة المأمورة المسخرة، التي لا يخشى منها جفلا ولا نفورا أو شرودا وهروبا، وفوق هذا يركبها نبي، ويقودها الملك جبريل - عليه السلام - بأمر ربه إلى السموات العلى، ليري الله - سبحانه وتعالى - نبيه الآيات الكبرى.
إن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءت بين معجزتين: بعد معجزة الإسراء، وقبل معجزة المعراج، وهذا يعني أن بيت المقدس له مكانة وقدسية خاصة عند ربنا - سبحانه وتعالى - والدفاع عنه وتطهيره من رجس اليهود واجب شرعي على المسلمين في زمان ومكان، فإن لم يفعلوا تفريطا أوجبنا أو خيانة وتآمرا... فالعقاب لا محالة بساحتهم ينتظر.
يقول السيد قطب - رحمه الله -: "والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل - عليها السلام - إلى محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام -، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا، وكأنما أريد لهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأخيرة لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها النظرة الأولى" [1].
إن الموقع الجغرافي لبيت المقدس يجعل منه منطلقا استراتيجيا يمكن أن تنطلق منه الجيوش الإسلامية والأحرار في العالم، إلى أنحاء الدنيا لتحرير الإنسان من الظلم والاستعباد الديني والاقتصادي والسياسي.
والواقع الدول الكبرى المهيمنة على الدنيا تدرك أهمية بيت المقدس الدينية والدنيوية، ومن ثم فهي تساند إسرائيل واليهود لتحقيق أحلامهم الاستعمارية والتوسعية عن طريقها وليس حبا في إسرائيل، وإسرائيل تدرك ذلك، ولكنها المصلحة المشتركة تجمعهم.
واهم من يعتقد أن الصراع الدموي سينتهي، وأن المصالحة بيننا وبين اليهود ممكنة، وأن أمريكا قادرة على رعاية السلام، والتعايش بين المسلمين واليهود ممكن... مادام بيت المقدس محتلا يئن تحت نار ونيران الاستعمار الإسرائيلي، يشكو إلى الله جور بني صهيون ليل نهار.
حتما ستكشف الأيام المقبلة اشتداد الصراع الذي سيختم بالانتصار على اليهود وإعادة بيت المقدس إلى أحضان الإسلام، وذاك ما وعد به الرحمان من خلال سورة الإسراء وصدق به أهل الإسلام.
فهل عرفنا السر في حادث الإسراء؟ وهل أدركنا أي مغزى عظيما قد انطوت عليه معجزة الإسراء؟ وهل حدثنا أنفسنا وعقدنا العزم على الصلاة حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
___________
عمر حيمري