الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الـذي هـو كمـا وصـف نفسه وفـوق ما يصفه خلقه، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه - سبحانه -.
والصلاة والسلام على أعلم النـاس بربه وأخشاهم وأتقاهم له، وعلى آله وأصحابه وذريته، وبعد:
قال - تعالى -: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْـخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْـمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ) [الروم: 72].
المثل الأعلى هو: معـرفة حقائق أسمائه وصفـاته، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين. وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره.
ولما كان - سبحانه - الرب والأعلى، ووجهه الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعلى، وهو أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحدَه؛ فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أي نظير.
وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه من إثبات صفات الكمال، فتأمَّله فإنه في غاية الظهور والقوة[1].
فإذا قال المؤمن بالمثل الأعلى: يا الله! قام بقلبه رب قيوم قائم بنفسه، مستوٍ على عرشه يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خَلْقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم، يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط، ويضحك من قنوطهم وقرب عفوه، ويَجبُر كسيرهم، ويغني فقيرهم... مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كلَّ يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويفك عانياً، وينصر مظلوماً، ويقصم ظالماً، ويرحم مسكيناً، ويغيث ملهوفاً.أكفُّ جميع الخلائق ممتدة إليه بالطلب والسؤال، ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال. يمينه ملأى لا يغيضها نفقةٌ آناء الليل والنهار، وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجار.
ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات والأرض مِنْ نورِ وجه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام.
يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور؛ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره مِنْ خلقه.
وسع كرسيه السموات والأرض؛ فالسموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يَقدِر قَدْره إلا الله، وهو - سبحانه - فوق عرشه يعلم ويرى ما عباده عليه.
الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس قبله شيء، والباطن فليس دونه شيء. له الكمال كله، وله الحمد كله، وله الثناء كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ فتبارك اسمه، وتباركت أوصافه، وتباركت أفعاله، وتباركت ذاته.
وقد أشكلت على كثير من المفسرين حقيقة المثل الأعلى، واستشكلوا أقوال السلف فيها؛ فابن عباس وغيره قالوا: المثل الأعلى: شهادة (أن لا إله إلا الله)، وقال قتادة: هو الإخلاص والتوحيد، وقال بعضهم: المثل الأعلى: الصفة العليا. قال الواحدي: (هذا قول صحيح، والمثل كثيراً ما يرد بمعنى الصفة. وقاله جماعة من المتقدمين)، وقال ابن كيسان: (المثل الأعلى نحو قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 53]).
وقال ابن جرير الطبري: (هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا هو)[2].
وقد جمع بين هذه الأقوال، وأزال ما فيها من الإشكال راسخ في علم القرآن، قد طال فيه باعه، ورحُب بنيله ذراعه، وباشر قلبـه أسرار القـرآن، وحقائقـه، إنه العلاَّمة ابن القيم، قدَّس الله روحه. قال: (المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودَها العلمي، والخبرَ عنها وذِكرَها. وعبادةَ الرب - سبحانه - بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه، فها هنا أربعة أمور:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله - سبحانه - في الأمر نفسه، علمها العباد أو جهلوها، وهذا قول من فسره بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والتصور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذِكْره ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهو أيضاً معنى قول من قال من المفسرين: أهل السماء يحبونه ويعظمونه، وأهل الأرض يجلُّونه ويعظمونه، وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه... قال - تعالى -: (وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) [الروم: 62].
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيدُه والإخلاصُ له والتوكل عليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى؛ فعبارة السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها)[3].
الإيمان بالمثل الأعلى يمنع أن يقوم بالقلب تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوقين: لأنه - كما قلنا - آنفاً يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى نظير أو شبيه، وهذا برهان قاطع على ما قلنا.
قال العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - واصفاً المؤمنين بالمثل الأعلى العارفين به: (فلم يصعب عليهم بعد ذلك معنى استوائه على عرشه، وسائرَ ما وصف به نفسه من صفات كماله؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظير له ولا مثيل، ولم يخطر بقلوبهم مماثلة شيء من المخلوقين، وقد أعلمهم الله - سبحانه - على لسان رسوله «أنه يقبض سمواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن»[4]، «وأنه يضع السموات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر المخلوقات على إصبع»[5]؛ فأي يد للخلق وأي إصبع تشبه هذه اليد وهذه الإصبع حتى يكون إثباتها تشبيهاً وتمثيلاً؟
فقاتل الله أصحاب التحريف والتبديل على ما حرَّموه من الحقائق الإيمانية، والمعارف الإلهية، وما تعرضوا به من زبالة الأذهان، ونخالة الأفكار[6].
كيف يجتمع في القلب معرفة من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله والقدرة كلها والكبرياء كلها، وتشبيهه بالمخلوقين؟ هذا من أشد المحال.
(فقاتل الله الجهمية والمعطلة... أين التشبيه ها هنا؟ وأين التمثيـل؟ لقد اضمحـل ها هنـا كل موجـودٍ سواه، فضلاً عن أن يكـون له ما يمـاثله فـي ذلـك الكمـال ويشابهه فيه)[7].
المعطلة رمتنا بدائها وانسلَّت:
المؤمن بالمثل الأعلى، يستحيل أن يقوم بقلبه تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوقين، وإنما يقوم هذا التشبيه بقلب حُجِب عن المثل الأعلى، ولم يعرف حقائق الأسماء والصفات؛ ففهم من هذه الصفات الإلهية ما فهم من صفات المخلوقين، ثم فر إلى إنكار حقائقها وابتغاء تحريفها، وسمَّاه تأويلاً؛ فشبه أولاً، وعطل ثانياً، وأساء الظن بربه وبكتابه وبنبيِّه وبأتباعه.
فالمعطلة النفاة رموا أهل السنة بدائهم وانسلوا منه لِواذاً، وقذفوهـم بمصابهم وجعلوه ملاذاً لهم ومعاذاً، يرمون أهل السنة بألقاب السوء: مشبهة، مجسمة، ممثلة، حشوية... وهم أحق بها وأهلُها.
ومما ينبغي أن يُعرَف أن التشبيه نوعان: تشبيه المخلوق بالخالق، وتشبيه الخالق بالمخلوق.
- فتشبيه المخلوق بالخالق في العبادة والخضوع والتعظيم، هو الواقع في الأمم. والقرآن مليء بالرد على من شبَّه المخلوق بالخالق في صفات الإلهية حتى عبده من دونه، وسيأتي بيانه لاحقاً، إن شاء الله.
- أما تشبيه الخالق بالمخلـوق فلـم يأتِ إنكـاره في القرآن (وإن كان باطلاً)، وإنما المتكلمون يذكرونه في كتبهم ويجعلونه مذهباً لبعض الناس، ومقالةً لطائفة المشبهة، وهي فرقة مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان.
وقد حقق ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتابيه: الصواعق وإغاثة اللهفان.
قال - رحمه الله تعالى - في تشبيه الخالق بالمخلوق: (هذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس، وهذه كتب المقالات بين أظهرنا، لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة، وإنما المعطلة يسمون كل من أثبت صفات الكمال لله - تعالى - مشبهاً وممثلاً)[8].
وقال: (المقصود أن هؤلاء المعطلة الملحدين في أسماء الرب - تعالى - هم المشبهون في الحقيقة لا من أثبت حقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه؛ ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء؛ فإنها فرقة مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان)، وقال: (لا نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهباً تذهب إليه، حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم، كالهشامية والسالمية وغيرهم ممن قال: إن الله جسم، لم يقولوا: إنه مماثل للأجسام)[9].
قلت: كتب المقالات تذكر المشبهة، وهي تعني بها المجسمة: كالكرامية والهشامية والسالمية وغيرهم ممن قال: إن الله جسم لا كالأجسام، فهم مجسمة وليسوا مشبهة، لكن أرباب المقالات يجعلون التشبيه لازمَ قولهم.
أما المتكلمون فهم - غالباً - لا يقصدون بالمشبهة والمجسمة إلا أهل السـنة الذين يثبتـون للـه - سبحانه - ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تشبيه ولا تمثيل.
وهذا التحقيق والتدقيق لم أجده عند غير العلاَّمة ابن القيم، - رحمه الله تعالى -.
المعطلة هم المشَبهة حقاً وصدقا:
والمعطلة نفاة الصفات هم المشبهة حقاً وصدقاً وذلك من أربعة أوجه:
أولاً: زعمهم أن آيات وأحاديث الصفات ظاهرها يوهم التشبيه: لذلك يجب أن تؤول وتُصرَف عن ظاهرها؛ لئلا يقع التشبيه، وهذا قول المعطلة جميعاً: جهمية ومعتزلةً وأشعرية وما تريدية... وغيرهم.
فأنت ترى القوم يزعمون ويقررون أنه يلزم من إثبات الصفات لرب الأرض والسموات تشبيهُه بالمخلوقات... ! أليسوا هم المشبهة حقاً والحشوية صدقاً؟
أم المشبهة هم أهل الإثبات الذين نطقوا بما نطق به القرآن، وقرروا ما قررته السُّنة؟ لو كان إثبات الصفات لرب الأرض والسموات، كما جاءت في الأحاديث والآيات تشبيهاً وتمثيلاً لَـمَا كان على أهل الإثبات لوم ولا عتاب؛ لأنهم متمسكون بالسُّنة والكتاب. قال - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 071]، وقال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 34].
فالذي يثبت لربه - سبحانه - ما أثبته لنفسه في كتابه وفي سُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وينفي عنه ما نفاه عن نفسه هو المتمسك بالكتاب والمتبع للوحي وهو على صراط مستقيم.
فأهل الإثبـات لم يقم في قلوبهـم قط هـذا التشـبيه، ولم يقع في عقولهم - قطعاً - هذا التمثيل؛ فكيف ترمونهم بالتشبيه والتمثيل والتجسيم وهم برآء منكم، ومن زعمكم ومن ظنكم بربكم؟
وأي ظنٍ أسوأ من ظنكم بربكم أنه وصف نفسه في كتابه بصفات تشبه صفات المخلوقين؟
وأي ظنٍ أقبح من ظنكم برسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يبيِّن صفات رب العالمين؟
فذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الضالين والمتحيرين والمتهوِّكين.
وهذا الوهم منهم نشأ من زعمهم أن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام؛ والأجسام حادثة. قالوا: والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث ولم تسبقها، وما لا يخلو من الحوادث ولم يسبقها فهو حادث؛ واستدلوا على عدم خلوها من الحوادث بطرق:
- منهم من قال: لا تخلو من الحوادث الأربعة، وهي: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون.
- ومنهم من قال: لا تخلو من الحركة والسكون فقط وهي طريقة الرازي.
- ومنهم من قال: لا تخلو من الأعراض؛ والأعراض حادثة وهي لا تبقى زمانين، وهي طريقة الآمدي وزعم أن أكثر الأشعرية على هذه الطريقة.
قالوا: وبهذا الأصل أثبتنا حدوث العالم ونفيَ كون الصانع جسماً وإمكان المعاد؛ فلو بطل الدليل الدال على حدوث الجسم؛ لبطل الدليل الدال على ثبوت الصانع وصِدْق الرسول، فصار العلم بثبوت الصانع وصِدْق الرسول، وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفاً على نفي الصفات؛ لأن الصفات دليل الأجسام؛ فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم[10].
ومن الناس من يظن هذا الأصل من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا به ومن لم يعرف ربه بهذا الطريق لم يكن مؤمناً به ولا بما جاء به رسوله، وهذا مذهب الجهمية والمعتزلة وأكثر الأشعرية وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية.
وقد صرح الإمام أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بأن: الإيمــان ليـس موقـوفاً على هـذه الطريق ولا هي من لوازمه، وليست طريقَ الرسل ويحرُم سـلوكها لما فيها من الخطر والتطويل[11].
وقال أهل الكتاب والسُّنة: بل هي طريق في نفسها باطلة ومتناقضة أعظم تناقض، وتُعارِض الكتاب العزيز أتم معارضة، ومستلزمة لنفي الصانع وصفاته وأفعاله ومستلزمة لنفي المبدأ والمعاد؛ فأول لوازم هذه الطريقة نفي الصفات والأفعال، وأنه لا يفعل شيئاً البتة، ونفي العلو والكلام، ونفي الرؤية، ومن لوازمها أيضاً القول بخلق القرآن، وقد ألزمهم ابن سينا بهذه الطريق (القول بنفي المعاد) إلزاماً لا محيص لهم عنه؛ فقال: (إذا كانت نصوص الصفات استعارات ومجازات، فالأَوْلى أن تكون نصوص المعاد كذلك)[12] وهذا حق؛ فلا جرم أن نصوص الصفات أبين وأظهر دلالة من نصوص المعاد، فإذا كانت آيات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه وتكلُّمه وتكليمه على سبيل الاستعارة والمجاز، فما الذي يمنع من أن تكون آيات المعاد كذلك؟
فبهذا الأصل سلَّط الله على المعطلة أعداءهم، واستطالت عليهم الفلاسفة والدهرية؛ فلا للإسلام نصروا ولا لعـدوه كسروا. واللـه الموعد: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 722].
ثانياً: اعتقادهم أن الأجسام متمـاثلة ومتشـابهة: فهم لا ينفون أي صفة عن الخالق - سبحانه - إلا لظنهم أنها تستلزم تشبيهه بالمخلوق؛ لأن المخلوق متصف بها في زعمهم؛ فهي من صفات المخلوقين فمتى وصفنا الخالق بهذه الصفات لزم تشبيهه بالمخلوقين؛ لأن الأجسام متماثلة في نظرهم؛ لذلك فهم لا ينفون عن الخالق صفـاته إلا بعـد اعتقادهم هذا التشبيه والتمثيل؛ فيلزمهم أن الله - سبحانه - قد شبَّه نفسه بالمخلوقين عندما أطلق على نفسه هذه الصفات، ونبيُّه - صلى الله عليه وسلم - كذلك قد شبهه بالمخلوقين، - تعالى -الله عن قولهم علواً كبيراً.
فانظر إلى ضلالهم، وسوء فهمهم؛ كيف قادهم إلى أن يفتروا على الله كذباً، ويحرفوا الكلم عن مواضعه. ألا يعلم أولئك أن ذاته - سبحانه - لا تشبه الذوات؟
فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات، هذا هو المعقول عند أصحاب العقول أما اعتقاد أن الأجسام متماثلة فهو أصل باطل عند جميع العقلاء قديماً وحديثاً، لكن هؤلاء لما عارضوا الوحي بعقولهم، أفسد الله عليهم عقولهم فجعلهم يقولون ما يُضحِك العقلاء.
والأدلة العقلية والسمعية الدالة على بطلان هذه النظرية كثيرة جداً أكثر من أن تحصى فأيَُّ نسبةٍ ليد المخلوق الضعيف العاجز إلى يدٍ تطوي السموات السبع ويدٍ تقبض الأرض؟
وأيُّ نسبةٍ لإصبع المخلوق إلى إصبع توضع عليها الجبال كلها وإصبع توضع عليها الشجر جميعاً؟
بل أي نسبةٍ لرِجْل البعوضة إلى رِجْل الفيل؟ فهل يصح في العقول أن يقال: إن البعوضة تشبه الفيل؟
وأي نسبة لجناح العصفور إلى جناح جبريل؟ فهل يقال: إن العصفور يشبه جبريل؟ ثم من قال لك: إن الجناح لا بد أن يكون من ريش؟
وهل سَمْع الجني مثل سمعك وبصره مثل بصرك وإرادته مثل إرادتك؟
وهل قول النملة مثل قولك وإرادتها مثل إرادتك وكلام الهدهد مثل كلامك؟
وهل سجود الشمس والقمر والجبال والشجر مثل سجودك؟
المقصود أنهم لَـمَّا ظنـوا تماثل الأجسام، وقام هذا التشبيه الذهني في عقولهم السخيفة، ظنوا أنه لا تقوم به الصفات والأفعال، فنفوا عنه صفاته العليا؛ لئلا تستلزم التشبيه؛ ففروا من هذا التشبيه المزعوم ووقعوا في لوازم قبيحة شنيعة تليق بهم لا محيص لهـم عنها؛ علمـاً أن هذه الألفـاظ لا يجـوز إطلاقهـا على الـرب - سبحانه - نفياً ولا إثباتاً، مثـل لفـظ الجسـم والمركب وغيرها؛ لعـدم ورودها في الكتاب ولا في السُّنة؛ فلا نَصِفه - سبحانه - إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثالثاً: تشبيههم الباري- جل وعلا - بالناقصين: بتعطيله عن صفات الكمال ونعوت الجلال؛ ومن لم يكن من الكاملين كان من الناقصين، ومن لم يكن له المثل الأعلى كان له مثل السوء، وهذا ليس إلزاماً لهم بتعطيلهم فحسب؛ بل قد صرح به أكابرهم. قال فخر دينهم: (لم يقم دليل عقلي على تنزيه الرب عن النقائص والعيوب، وإنما علمنا ذلك بالإجماع)[13].
وهو فـي كتبـه يقـدح فـي دلالــة الإجمـاع وبيَّن أنهـا ظنيـة لا قطعية؛ فالقـوم ليسوا قاطعين بتنزيه الرب من النقائص والعيوب، بل غاية ما عندهم في ذلك الظن، وفخر دينهم هذا يوافق الفلاسفة في مسألة الإرادة ويرجِّح أن الرب - سبحانه - فاعل بالذات، ليس فاعلاً بمشيئته واختياره[14]. فالحق أنه ما افتخر بالدين ولا افتخر به الدين.
ومما يدل على أن المعطلة قد شبهوه بالناقصين: أنهم سموه ماكراً وخادعاً وكائداً وجوزوا إطلاق هذه الأسماء عليه. قال البقوري مستدركاً على شيخه القرافي في الفروق لَـمَّا ذكر أنه يُقتصَر بهذه الأسماء على محلها للمقابلة: (ورأيت صاحب الشعب الشيخ أبا محمد عبد الجليل القصري الأوسي - رحمه الله - ذكر في الأسماء ماكراً وخادعاً. وظاهر كلامه أنها تطلق لا ما قاله شهاب الدين (أي: القرافي)، ثم ينقل البقوري عن الرازي في تفسيره ما يدل على جواز إطلاقها[15].
وإن تعجب فعجبٌ حال هؤلاء المعطلة أتوا إلى صفات الكمال ونعوت الجلال فنفوها عنه - سبحانه - وأتوا إلى النقائص والعيوب، فأطلقوها عليه.
والعجيب جداً أن القرافي قبل المسألة السابقة بقليل يقرِّر في فروقه أن القرآن العظيم لا يجوز الحلف به؛ لأنه مخلوق وإنما يجوز الحلف بالكلام النفساني القديم الذي لم يسمعه جبريل ولا موسى - عليهما السلام - ولم يرد عليه البقوري ولم يستدرك على عادته: (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 87].
رابعاً: تشبيههم المخلوق بالخالق وإعطاؤه من حقوق الألوهية وخصائص الربوبية، ويصرفون له أنواعاً من القربات والنذور والدعوات، ويطلبون منه قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وهذا هو التشبيه الذي نهاهم عنه رب الأرض والسموات، وحذرهم منه. والقرآن مليء بالتحذير من الغلو في المخلوق، وتشبيهه بالخالق في العبادة والخضوع والتعظيم.
وربما يقول بعضهم: أين العدل والإنصاف؟ كيف تنسب إلينا ما لم نفعله وما لم نعتقده؟
أقول: بلى وربي إنه لحق، وليس هذا بكذب ولا بهتان؛ فكثير من المعطلة هم أكثر الناس نقضاً لتوحيد العبادة وتوحيد الإلهية، وهم أشد الناس تعلُّقاً بأصحاب القبور، وهم الذين اختلقوا الحديث المشهور: «إذا ضاقت عليكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور»[16].
قال العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله -: (تبين أن المشبِّهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق، في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند قبره، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله بقولهم: ليس لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وما شاء الله وشئت، وأمثال ذلك؛ فهؤلاء هم المشبهة حقاً لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبت لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه... الذين لا يجعلون له نداًً من خلقه ولا عدلاً ولا كفؤاً ولا سميّاً، وليس لهم من دونه ولي ولا شفيع)[17].
______________
عماد الصامت