تأثير القدوة الصالحة على الناس:
أعظم أسلوب يقوم به الداعية إلى الله - تعالى - هو امتثاله الإسلام، وتطبيقه السنة، فما يحمله الداعية من أخلاق المسلم الحق كفيلة بإذن الله - تعالى - أن يأسر القلوب الشاردة في أودية الضلال، وأن يكون محل الاحترام والتقدير، والقبول لدى الصغير والكبير، فدليل الفعل أرشد من دليل القول؛ ولذلك لما أرادت قريش أن تطعن بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، اختلقت كل خلق مشين لإلصاقه به، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا، ولم يصدقهم الناس، وذلك لظهور الأخلاق العظيمة، وجريان الآداب الفاضلة على جوارحه، جريان الماء الرقراق في الجداول النقية، وقد قيل: ما تخفيه السريرة يظهر على السيرة.
ولهذا فإن من أبلغ وسائل التأثير على الناس هو القدوة الحسنة؛ فالنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا ينتفع به؛ ولأجل هذه النفرة قال شعيب - عليه السلام - لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[1].
فكم من داعية أثر على الناس بعلمه وبحاله، من دون أن يعظهم ويذكرهم، فسيرته تستنطق الأفواه بالتسبيح، وكم من أمم دخلت في دين الإسلام بسبب القدوة الصالحة، والتاريخ خيرُ شاهد.
قال بعضهم: ليس الحكيم الذي يلقنك الحكمة تلقينا، وإنما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدي به.
قال عدي:
ونفسك فاحفظها من الغي والردى *** متى تغوها تُغوِ الذي بك يقتدي
فلا يمكن بحال أن يكون الواعظ مقبولاً عند شخص يعظه وينهاه عن الغيبة أو النميمة، أو الكذب مثلا، وهو واقع فيها، منغمس في بحرها.
الدعوة بالعمل قبل القول:
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين، نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق، يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[2].
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله - عز وجل - ينبغي أن يكون ذا عمل صالح، يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً، ولهذا قال بعده: (وَعَمِلَ صَالِحًا) فهو داعية إلى الله باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم، وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما العامة، وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة، والأفعال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله - عز وجل - من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل، حتى يُقتدي بفعاله وأقواله"[3].
ومما يفيد في هذا المعنى: أن رجلا جاء إلى ابن عباس، فقال إني أريد أن أعظ، فقال: أو بلغت ذلك؟! إن لم تخش أن تفضح بثلاث آيات من كتاب الله - تعالى - فافعل، قال: وما هي؟ قال: قول الله - تعالى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)[4]
وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[5].
وقوله - تعالى -: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[6].
أحكمت هذه الآيات؟ قال: لا، قال: فابدأ إذا بنفسك.
وقال بعض السلف: إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنهي، فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له، والمؤتمرين به، وإذا نهيت عن شيء فكن أول المنتهين عنه.
وقد قيل:
يا أيـها الرجــل المعلـم غيـره *** هلا لنفسك كـان ذا التــعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنى *** ومن الضنى تمسي وأنت سقيم
لا تنــه عن خلـق وتأتي مثلـه *** عار عليك إذا فعلـت عظيـم
ابدأ بنـفسك فانـهها عـن غيـها *** فإذا انتهت عنـه فأنت حكـيم
فهنـاك يقبـل ما تقـول ويقتدي *** بالقول منك وينـفع التــعليم
مع أنه لا يعني بالضرورة ألا يمتثل الناس إلا ممن يعمل بعلمه، أو كان مطبقا للمأمور، مجتنبا للمنهي عنه، لكن هذا من دواعي القبول، وسرعة التأثير.
قال بعض أهل العلم: لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تعملوا بأحسن ما تسمعون منا.
وقال بعضهم: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن اسأله يصدقك.
ووقف رجلٌ -يظهر أنه حاسد- على ابن عيينة وهو يعظ الناس فأنشد:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو مريض
فأنشده ابن عيينة:
اعمل بعلمي وإن قصرتُ في عملي*** ينفعك علمي ولا يضرُرْك تقصيري
والمستقرئ لكتب السنَّة يجد كيف كشفت لنا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التطبيق النموذجي لتأثيره على الناس، من خلال الخلق العظيم والأدب السامي، الذي كان يتصف به - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان يزور الناس، ويغشاهم في أسواقهم ومجامعهم، وكان يكلمهم ويدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وكان يستقبل الوفود، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من أساء إليه، وكان دائم الذكر والفكر، وغيرها كثير، مما يجعلنا نُفعِّل هذا الجانب، ونُعْمِله في واقع دعوتنا.
ـــــــــــــــــــ
عزيز فرحان