من النتائج العجيبة للأزمة المالية التي بدأت في الولايات المتحدة ثم أخذت تجتاح أوروبا والعالم من ورائها؛ أنها لفتت أنظار كثيرين من رجال الاقتصاد والسياسيين في أوروبا إلى مبادئ الاقتصاد الإسلامي وإمكانية أن يكون بديلاً للنظام السائد وعلاجاً لما تسبَّب فيه من مشكلات.
وقصة الدعوة إلى بناء المؤسسات الاقتصادية الحديثة على أسس من مبادئ الاقتصاد الإسلامي؛ قصة فيها كثير من الروعة، قصة جمعت بين الدعوة بالأدلة العلمية والأمثلة العملية؛ فكتـب الله لها نجــاحاً كبيـــراً. بدأت هـذه القصة في الخمسينيات الميـلادية مـن القـرن الماضـي فيمـا أذكـر.
فقـد دعــا خبـراء اقتصاديـون إسلاميــون في مصر وباكستــان - وربما في أماكن أخرى لم أطَّلع عليها - إلى ما أسموه بـ (المصارف غير الربوية). وكان من أبرزهم: الاقتصادي الباكستاني نجاتي صديقي.
ولم تكن دعوتهم دعوة مجردة إلى الأخذ بالمبادئ الإسلامية، بل إنهم استفادوا من خبرتهم في مجال المصارف ليبيِّنوا أن هذا أمر ممكن، بل ليقترحوا الطرائق العملية لتنفيذه.
وكان من الطبيعي أن يسخر منهم المقلِّدون لكل ما هو غربي؛ الذين يظنون أن كل مؤسسة غربية سياسية كانت أو اقتصادية أو تربوية أو غير ذلك هي من لوازم العصر، وأن كل بديل لها إنما هو خرافة أو شيء قد عفَّى عليه الزمن. لكن هؤلاء الرواد كانوا على يقين من صحة ما يقولون، ولذلك استمروا في كتاباتهم عن البنوك غير الربوية غير عابئين بأقوال هؤلاء العميان.
ثم تطوَّر الأمر إلى أن صارت المؤتمرات تُعقد عن الاقتصاد الإسلامي، ربما كان أولها المؤتمر الذي عُقد في مكة المكرمة في عام 1395هـ (1975م) تحت عنوان «المؤتمر الأول للاقتصاد الإسلامي» الذي تشرَّفتُ بحضوره.
ثم إن بعض رجال المال الذين اقتنعوا بالفكرة أقدموا على وضعها موضع التنفيذ، وربما كان بنك دبي الإسلامي أولها، ثم تبعه أو زامنه بنك فيصل الإسلامي.
وقد اعترض على الفكرة في صورتها العملية أصحابُ البنوك الربوية التقليدية، وحاولوا أن يحاربوها، كما اعترض عليها بعض المتدينين الذين يظنون أنه لا يكون الشيء إسلامياً إلا إذا كان أمراً لا نقص فيه، فبدؤوا لذلك يتتبَّعون مواطن الخلل فيها، ويجعلون ذلك وسيلة لمحاربتها.
ولا زلت أذكر كيف أن بعضهم ذكر لشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز بعض مواطن الخلل هذه في ندوة عامة عُقدت في الرياض لمناقشة قضية البنوك الإسلامية؛ فكان ردُّ الشيخ الفقيه كلاماً فحواه أنها مع عيوبها خير من المصارف الربوية البحتة.
ثم تعددت هذه المصارف الإسلامية وانتشرت - بحمد الله - تعالى - في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ثم في سائر بلاد العالم، ومن بينها: أوروبا وأمريكا، فعرفها بعضٌ من خبراء الاقتصاد ومن عامة الناس.
واستمرت فكرة المصارف غير الربوية تتطور على الصعيد العلمي النظري وعلى الصعيد العملي.
وأعرف شباباً مسلمين اختصوا بعلم الاقتصاد في الجامعات الأمريكية كانت رسائلهم عن الربا وفوائد إلغائه من المعاملات المالية الحديثة؛ بل إن بعض الجامعات بدأت تهتم بمبادئ الاقتصاد الإسلامي وظلت تعقد عنه منتديات سنوية كان آخرها المنتدى الثامن الذي عُقد في أبريل من هذا العام الميلادي والذي يحدثنا عنه الأستاذ المسلم علي خان - أستاذ القانون في إحدى الجامعات في ولاية كنساس في الولايات المتحدة، - فيقول: إن التمويل الإسلامي بدأ يجذب أنظار كثير من الأكاديميين، وإن كثيراً من الذين شاركوا في المنتدى كانوا يتساءلون عما إذا كان الأخذ بمبادئ التمويل الإسلامي سينقذ المصارف الأمريكية من التصدُّع الذي تعانيه الآن؟ [1].
ثم جاء الحدث الذي روته وكالة الأخبار الإسلامية والذي تقول فيه:
دعا مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضمِّ النظام المصرفي الإسلامي إلى النظام المصرفي في فرنسا، وقال المجلس في تقرير أعدَّته لجنة تُعنَى بالشؤون المالية في المجلس: إن النظام المصرفي الذي يعتمد على قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية مريح للجميع؛ مسلمين وغير مسلمين.
وسيزعج هذا الخبر كثيراً من العَلْمانيين في بلادنا، وحق للعَلْمانيين أن ينزعجوا؛ لأن الثناء على مبادئ الاقتصاد الإسلامي لن يقف عند حدود الاقتصاد، بل لا بد أن يقول بعض العقلاء لأنفسهم: إذا كان هذا الدين صحيحاً في نظرته إلى الاقتصاد، وإذا كان الأخذ بمبادئه سينجينا من هذه الكوارث الاقتصادية؛ فربما كان حقاً في جوانبه الأخرى أيضاً. ربما قال بعض العقلاء منهم هذا؛ لاسيما إذا رأوا كيف أن ما حدث لبنوكهم هو صورة حسية للمَحْق الذي ذكره الله - تعالى - في قوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة: 672]. وهل رأيت من مَحْق أكثر من أن تفلس مؤسسات جمعت البلايين من الأموال بالربا ثم صارت تحتاج إلى إنقاذ؟
ولذلك فإنهم قد يدخلون في دين الله من هذا الباب، وهذا ليس بالأمر المستغرب؛ فإن أبواب الدخول في الدين متعددة، لكن كل داخل من باب يجد نفسه مع الداخلين من الأبواب الأخرى في باحة الحق الواسعة.
أقول بشيء من الأسى: إذا كانت هذه الأمثلة القليلة لمؤسسات اقتصادية إسلامية قد جذبت هذا الانتباه الكبير؛ فكيف لو أن البلاد الإسلامية جميعاً كانت قد بنت حياتها الاقتصادية كلها على أسس من شرع الله تعالى؛ فضربت للناس مثلاً عملياً على تفوُّق التعاليم الإسلامية في مجال الاقتصاد على مبادئ الرأسمالية والاشتراكية، وأفلحت في إسعاد البشرية كما لم يفلح أي من تلك الأيديولوجيات الغربية. ولكن إذا لم تفعل في الماضي فلعلها تدرك الآن خطأها وتعود إلى هدى ربها.
وإخواننا العلماء الذين كانوا قد أجازوا لإخوانهم المسلمين في بلاد الغرب أن يقترضوا قروضاً ربوية لشراء البيوت؛ لعلهم الآن يراجعون موقفهم، ويربؤون بإخوانهم المسلمين أن يشاركوا في معاملات تؤدي إلى مثل هذا الفساد في الأرض الذي كان نتيجة المعاملات الربوية في المصارف الغربية.
--------------------
جعفر ادريس