أيها الفضلاء..
أنتم في خضم معركة طاحنة، تُستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة، وعبر جميع الوسائل المتاحة، ففضاءات الصحافة والتلفاز وشبكات الانترنت مفتوحة اليوم؛ لمعركة لا رحمة فيها ولا هوادة، عدوكم قد كشر فيها عن أنيابه بكل ما أوتي من قوة، واستوفز للانقضاض عليكم وافتراسكم ما لديه من قدرة، لا يتراجع عن استخدام أي وسيلة تتاح له ـ محرمة كانت تلك الوسيلة أم مباحة ـ، الكذب عنده أحل من شرب الماء البارد في حمأة القيظ، والتحريش سنته وطريقته التي لا يحيدُ عنها، والغدر شيمته وخلقه الذي يشرف به، قد رماكم عن قوس واحدة، واستنهض لحربكم عدواً من خلفه يسند ظهره ويدعم خططه، ويمده ويربت على كتفه.
ليست هذه الحرب غريبة عليه، فهو لا يخوضها للمرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، بل هو متمرس فيها خبير بها عارف بخباياها، تبلغ به الثقة بنفسه أن يضع ـ أحياناً ـ لإنهائها خطة زمنية محددة؛ لأنه لا يدخل المعركة دون توفر أسلحته وحضور جميع أركانه وأعمدته، قد خاض معركة مثل معركته معكم وأعنف في مصر قبل مائة سنة، وفي تونس والمغرب وفي غيرها من دول الإسلام وحواضره، وهو يضع خططه لاجتثاثكم أو إذابتكم عبر إرث ضخم من الخبرات التي لا يكل من مراجعتها والاهتداء بها.... إنه لا يعبث يا سادة!!!
مائة سنة من المعارك والحروب والنجاحات والإخفاقات، جعلت هذا العدو شديد الذكاء إن لم يكن شديد البأس في كل ما يتعلق بالمعركة التي ينوي دخولها، فهو من يحدد وقتها، وهو من يختار مكانها، وهو من يرسم خطتها، وهو من يحرك خيوطها....
لا أقول هذا فزعاً أو خوفاً أو رعباً منه، بل هو والله ذليل حقير مهين أمام عزة المؤمن الصادق وثباته وصبره، لكنه مُنَظَّم يدير معركته بذكاء وحنكة ويرسم خططه بدهاء وخبرة، ويضرب خصومه ببعضهم ليخلو له الجو لتنفيذ برامجه بمكر وخبث وطول بال.
هذا العدو يدخل من بوابة التخلف لاختراق ثقافة الأمة، ومن بوابة الجهل لتضليل أفرادها، ومن بوابة الفقر لامتصاص خيراتها.
مارس الاحتلال المباشر، فلما رأى أنه لا يجدي نفعاً لكثرة خسائره رغم وفرة منافعه ـ بالنسبة له ـ جلى عن البلدان بالأجساد وأبقى فيها نَفَسَاً خبيثاً، يفكر بعقله ويتكلم بلسان أهلها ويقدم له من الخدمات والمكاسب ما لم يكن يتحصل ولا على نصفه أيام حضور جيوشه وعساكره...
ألم أقل لكم إنه شديد الدهاء.
هذا العدو الكاشح يديركم اليوم في معركة شرسة تحت عناوين: الليبرالية، والإرهاب، والاختلاط، والسينما والمسرح، وهلم جرا...
وليست هذه المعارك جديدة عليه...
إنه يحاربكم وهو مزهو بنشوة الانتصار التي يعيش لحظاتها قبل أوانها، وربما حدد وقت الاحتفال، وأعدَّ منصته!!
يردد دوماً تحويل المجتمع إلى الليبرالية مسألة وقت!!
تطبيع الاختلاط مسألة وقت!!
علمنة الأنظمة وفصلها عن الدين مسألة وقت!!!
هكذا يقول وهكذا يزعم!!
يحاور ويناظر ويناور ويهاجم ويستفز،، فيتقبل الخصم الاستفزاز ـ مع نقص الجاهزية ـ ويعطي خصمه حجة الانقضاض، فينقض عليه مفترساً إياه غير آبه بصراخه وتوسلاته وصيحاته، أين الحرية التي تتشدق بها أيها الليبرالي المأزوم؟!! أين الرأي الآخر الذي ترى أن له الحق في الظهور؟!!! أين القانون الذي تقدسه وتزعم أنك لا تخالفه؟!! أين الديمقراطية؟!!! أين الليبرالية؟!!!
عندها يعلم من كان يأبى أن يعلم أن المسألة أكبر من صراع تيارات داخل مجتمع، وأن القضية أكبر من أطروحات إصلاح وتغيير مختلفة تتنافس لإنقاذ الأمة، وأن الأمر أكبر من مواطنين ليبراليين يسعون جهدهم للتغيير ضمن حدود الدولة وتحت سلطة القانون...
نعم المسألة أكبر من كل ذلك
أكبر من مواطنين أحرار
وأكبر من أطروحات إصلاح
وأكبر من صراع تيارات
بل وأكبر من دولة وقانون
نعم أكبر
وإلا فبم نفسر الاستقواء بالأجنبي في كل صغيرة وكبيرة
وبم نفسر حشر الصحافة العالمية أنفها في كل موضوع عن السعودية
وبم نفسر مطالبات الدول الغربية بالإصلاحات الداخلية في السعودية
بل وبم نفسر تدخلهم في شؤون إدارية وقضائية داخلية بشكل سافر وكالح
لا يمكن تفسير هذا إلا على أن لهؤلاء القوم مصلحة كبرى في تغيير واقعنا لا إلى الأصلح لنا وإنما إلى الأصلح لهم!!!
ولذلك يتدخلون ويضغطون ويلمحون ويصرحون
وحتى يتحقق لهم هذا التغيير
وحتى يصلوا بنا إلى بر أمانهم وإلى غابة خوفنا
لا بد لهم من استفزازنا وإرباكنا وتخوفينا وزرع القلق في نفوسنا
لا بد لهم من إشغالنا عن البناء بالمدافعة
وعن التطور بالمماحكة
وعن النهضة الحقيقية بالجدل البيزنطي العقيم
حتى لا نلتفت إلى إصلاح ذاتنا وبناء قدراتنا وتطوير أنفسنا بأنفسنا
فنظل نتحارش ونتقاتل ونتلاعن تحت أنظارهم وهم يلعبون بنا، ويضحكون علينا، وذلك مصداقاً لقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم))، [صحيح مسلم].
يستفزنا هذا العدو ليشغلنا بهذه المسائل الجانبية عن القضايا الكبرى والمصيرية.
يستفزنا ليغرقنا في خلافاتنا الداخلية لتي تجتث الوحدة من جذورها وتزرع الشتات والفرقة.
يستفزنا ليفتح المسارب لاختراقنا وتفتيت قيمنا والقضاء على ما بقي من ديننا.
يستفزنا ليفتح لنا المجال أحياناً بتحقيق انتصارات آنية ومحدودة، تملؤنا زهواً وغرورا ثم نعود لواقعنا لنراه مليئاً بالجهل والتخلف.
يستفزنا لنستعجل المواجهة قبل أوانها ونقضي على أنفسنا بأنفسنا عبر اجتهادات ربما قام بها أفراد أحياناً لكن ويلاتها شملت الأمة بمجموعها.
ومشكلتنا أننا نملك القابلية للاستفزاز، وربما كان ذلك راجعاً لدمنا الحار الذي يتميز بسرعة الفوران ثم الخمود بعد ذلك، أو لأننا نظن أن السياسة تقوم على المواجهة المباشرة باعتبارنا أمة خطابة وفصاحة وبيان، فلا نؤخر فرصة إبراز مواهبنا الخطابية إذا حانت، أو لأننا لا نملك مشروعاً حقيقياً طويل الأمد نرعاه ونسعى للحفاظ عليه وندرس خيارتنا من خلاله، وهذا في ظني هو السبب الحقيقي لهذه القابلية المفزعة للاستفزاز!!!
إن غموض الرؤية وغياب مشاريع الإصلاح الحقيقية عن واقع مجتمعاتنا ـ والخليجية منها خصوصاً ـ جعل الشباب في حيرة من أمره إزاء كل نازلة تنزل بأهله أو قارعة تحل ببلده ومجتمعه، فيفزع إلى المطالبة بالمواجهة بحدودها القصوى وكأن القدرة متوفرة والعدة مكتملة؛ ولو تأمل المرء قليلاً في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الروح الشبابية المتقدة بالحماس والمنادية بسرعة الحسم لعلم أن في الأمر متسعاً لشيء من الدهاء السياسي والحكمة الدعوية، فعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: "شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))، [رواه البخاري].
فالرغبة في سرعة تجاوز مرحلة الشدة والضيق إلى الفرج والسعة، فطرة إنسانية، واستعجال ذلك مطلب عاطفي، لم ينفه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه نبه الصحابة إلى سنة الله الجارية في هذا الشأن، وأن السنن الإلهية لا تقاوم وإنما تفهم ويتماشى معها، والله غالب على أمره وناصر دينه، وأن استعجال ذلك مخالفة لسنته!!
هذا النص نحفظه جميعاً بل يحفظه الطلاب في مدارسهم، لكن التعامل وفق مقتضياته هو ما ينقصنا في هذه المرحلة، أجزم أن قريشاً كانت تتمنى أن يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته السلاح في وجهها ـ وقد طلب بعض الصحابة ذلك ـ ليكون ذلك مبرراً واضحاً لها في استئصالهم وإفشال دعوتهم التي أقلقتها وأقضت مضاجعها، لكن الله - تعالى -يؤخر كل ذلك لحكمة يريدها ولتكون سنة لكل مستضعَف أو عاجز يأتي بعد ذلك، فاكتمال المشروع وقوة حجته، وكثرة أنصاره لا يعني قدرته العملية على التغيير ما لم تتوافر جميع الفرص لذلك، ولهذا تأخر الإذن بالقتال حتى قامت الدولة في المدينة.
لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في دعوته دون أي توقف ولم تكن تلك الاستفزازات والمواجهات والتعذيب والتشهير والتحقير توقفه عن سيره أو ترده عن قصده أو حتى تنحرف به لانشغال بمواجهتها عن الغاية الكبرى والقصد الأعظم.
والفرق بين واقعنا وذلك الواقع، ليس في الاستفزاز ولا في الإشغال ولا في التحقير والتشهير والازدراء، فهذا موجود وإن بصور مختلفة، لكننا لم نستن بسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الإعراض عن ذلك والانشغال بالخطة الأساسية والغرض الرئيس، كلا.. بل نحن مستعدون للالتفات والانشغال بكل صيحة أو نبحة أو رمية حجر أو طلقة رصاصة، وربما أغرقنا في ذلك وجعلناه كل همنا وغبنا عن هدفنا الرئيس وأهملناه ونظن أننا نحسن بذلك صنعا.
ربما أشغلنا واستفرغ جهودنا خطاب لخصم، أو كاياتير لمتربص، أو مسرحية لعابث، أو فلم لمخرج مستهتر...
ولربما جيشنا الجيوش وحزبنا الأحزاب وجمعنا الصفوف واستغرقنا الأوقات وكأننا سنوقف الشتائم أو نمنع الأكاذيب أو نرد الصياح والنباح، وقد ضاعت بسبب ذلك جهود وأموال وأوقات وأرواح ـ أحياناً ـ لو أنها صمدت للقضايا الأساسية لحققت من النجاح والتقدم والتأثير أضعاف أضعاف ما تحققه وتجنيه عندما تكون في موقف المدافعة التي تكون في أحيان كثيرة في غير موقعها أو سابقة لوقتها أو مقدمة على ما هو أولى منها.
في ظني أننا بحاجة ماسة جداً إلى مراجعة طريقة استجابتنا للأحداث من حولنا، حتى لا يطول تخبطنا في مستنقع الأخطاء الذي تجرنا عواطفنا إليه، وليس معنى ذلك أن نفرِّغ جوانحنا من كل حمية وغيرة ولكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب الأصول والأسس، وحتى نصل إلى ذلك المستوى أتمنى ألا يطول بنا الزمن.--------------------------------------
عبدالعزيز الشاطري