يظن كثير من الباحثين أن الإسلام قد أجحف بالإنسان ,فلم يعطه حقوقه ,بل حجر عليه في أمور هو في أمس الحاجة إليها ، وقبل أن ندخل في جزئيات الموضوع يجدر بنا أن نقدم تعريفاُ موجزاً لكل من
إنسانية الإنسان ) و(الديمقراطية ) و(الإسلام).
إنسانــية الإنسان :
يٌقصد بإنسانية الإنسان منح ابن آدم كل ما يحتاج إليه , لإقامة الحياة الكريمة , من غير إفراط ولا تفريط .
الديمقــراطية :
نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيباً على أعمال الدولة , بواسطة المجالس النيابية , وَلِنواب الشعب سلطة إصدار القوانين .
أو نظام حكم يحكم الشعب فيه نفسَه بنفسه بواسطة نوابه .
الإســلام:
هو الاستسلام لله بالتوحيد , والانقياد له بالطاعة , والخلوص من الشرك والبراءة من أهله .
أو إقامة نظام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة .
بادئ ذي بدء لا مقارنة بين الإسلام والديمقراطية في كل ما تدعيها , لأن الديمقراطية نظام بشري , بينما الإسلام شَرْعُ مَنْ خَلَقَ الإنسان , ويعلم ما توسوس به نفسه , وما يحتاج إليه , وما يضره وما ينفعه ...، ولكن البشرية قد غاب عنها شرع الله لتخلى المسلمين عن تطبيقه في واقع الأرض , فأصبحت تطلب الهدى في غير منهجه .
ومن هنا اقتضى البحث المقارنة , وسأوجزها في هذا المقال الحالي في التشريع وسن قوانين.
التشـريع :
من رحمة الله بالعقل البشري أنه لم يكلفه بالتشريع وسن القوانين , لعلمه الشامل عزوجل أن العقل غير قادر على تحقيق مصالح البشر , فإن ظفر بالمصلحة فيما مضى من الزمن أو فيما هو متلبس به، فإن مصلحتهم في المستقبل محجوبة عنه دون نزاع , ومن ثَمً يظل تشريعه قاصراً عن تحقيق مصالح البشر في كل حين وآن .
ومن هذا المنطلق كان التشريع أخص خصائص الألوهية , لا تتحقق عبودية الإنسان في النظام الإسلامي ما لم يحصر حق التشريع فيمن خلق وأوجد الكائنات .
وحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه ومجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قول الله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله , والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )سورة التوبة آية31 خير شاهد لذلك
قال يا رسول الله
إنا لسنا نعبدهم )(فقال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه , ويحلون ما حرم الله فتحلونه )قال (فقلت بلى , قال فتلك عبادتهم) الحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره ج10 ص 114 .
فالمشرع بغير ما أنزل الله في ضوء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم إله , نصب نفسه مالكاً من دون الله ,لإعطائه ذاته حقاً من حقوق الألوهية, وبهذا الوضع يأخذ في الناس مكان الإله المعبود , ويستخدم أخص خصائصه .
وإن جئت إلى التشريع في النظام الديمقراطي فهو حق من حقوق النواب , الذين انتخبهم الشعب لإدارة الحكم ,إذ تُعًرف الديمقراطية بأنها من الشعب إلى الشعب عن طريق الشعب , و كل نظام يعطي حق التشريع لغير الله آفته إنه يقسم شعبه إلى قسمين :سادة يشرعون ويحكمون , وعبيد يقع عليهم تِبِعَةُ التشريع والامتثال والتنفيذ ,
ومن هنا تفقد البشرية العدل والمساواة في ذلك النظام , وأبرز صور منافاة العدل والمساواة في النظم الوضعية الحالية وجود الحصانات المتعددة في الدساتير والقوانين .
أضف إلى ذلك أن المقنن البشري مهما حاول التوفيق بين مصالح البشر أجمعين ، فإنه محاط بِعَجْزَيْنِ بشريين لا خلاص له منهما :
1- جهله بعدم الإحاطة بالمستقبل , وما تُخفِى له أحداث الزمن , لذلك نجد قانون أم الديمقراطيات (بريطانيا ) ينص في تشريعه الوضعي المطبق في بعض مستعمراتها السابقة حتى الآن (أن من سرق ثوراً قيمته عشر روبيات يسجن ...)
وقد أكل الدهر وشرب على ثور قيمته عشر روبيات , ومن ثَمً نجد التشريع الوضعي في أغلب الأحيان متخلفاً عن أحداث الزمن , بخلاف شرع الله فإنه وضع الحل قبل وجود الأحداث في صورة تشريعات عامة، .
فملائمة الأحداث ومواكبتها من الشريعة أمر لا يحتاج إلى دليل , وتخلف التقنين الوضعي عن الأحداث أمر لا ينكره أحد.
2- إن المشرع البشري يَحْمل نفساً أمارةً بالسوء , مركبة من الهوى والميل إلى المحبوب والمُحْسِن , ومن ثم تجد التقنين الوضعي يجحف بطائفة على حساب أخرى .
وأغرب ما نشاهد في هذا الباب أن حزب العمال في بريطانيا إن جاء إلى الحكم يشرع قانون تجميد الأجور , وإن كان في المعارضة يؤلب الرأي العام لرفع الأجور , وما ذاك إلا لأن مقننيه يراعون مصلحته في كل الأحوال, وما يضر خصمه في كل الأحوال .
وأما التشريع الإلهي فإنه منزه عن هذه الملابسات , فالعدل الإلهي سوى بين البشر , فلم يفضل أحداً على أحد , وإنما حصر معيار التفاضل في التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) سورة الحجرات آية 13 . وتلك قِمَّة الإنسانية , واقرب لحظات الإنسان إلى ربه (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...) سورة الإسراء آية 1 .
إزالة شبهــة :
قد يقول بعض الناس إن الإسلام بحصر التشريع في يد الخالق قد ضيق الباب على أتباعه , لأن التشريع قد انقطع بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم , بينما أحداث البشر ما تزال كل يوم في جديد , فكيف يحل تشريع منقطع غير متجدد مشاكل الحياة المتجددة ؟
ما أسهل الرد على هذه الشبهة , إذا علمنا أن الله أرسل محمداً خاتماً للرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم , وأن دينه خاتم الأديان , فلم ينزل عليه تشريعات جزئية , كما كانت تنزل على الأنبياء والرسل السابقين عليهم السلام , بل أنزل في دينه الأخير تشريعات عامة , وقواعد جامعة , تندرج تحتها الجزئيات التي حدثت أو التي ستحدث في المستقبل .
فمثلا لو جئت إلى تشريعات الإسلام في اللباس , تجدها تمنع الإسراف والتبذير , وما يؤدي إلى التباهي والتبختر وما يجسد عورة الرجل أو المرأة ...فكل لباس خلا من هذه العيوب فيما مضى أو فيما سيأتي فهو لباس إسلامي , سواء كان على شكل قطعة أو قطعتين ..., وسواء كان مرتديه اندونيسيا أو هندياً أو نيجيرياً ...
وهكذا الأمر في أغلب تشريعات الإسلام , نجدها عامة , تحتوى الأحداث السابقة واللاحقة , وأما التشريعات الجزئية فهي قليلة جداً .
أضف إلى ذلك أن العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن له إدراك بمرامي التشريع قد يجتمعون لإعطاء حدث ما حكماً شرعياً , كما أعطاهم الشرع أن يقيسوا الأحداث اللاحقة على الأحداث السابقة لإعطاء الحكم للمستجدة منها بشروط وضوابط معروفة , ولهم أيضاً أن يجتهدوا وأن يراعوا المصالح المرسلة في الأحداث غير المنصوصة في ضوء النصوص الشرعية العامة . وبذلك تظل حلقة التشريع الإسلامي كاملة متواصلة دون انقطاع .
وبهذا المنهج الإسلامي لا نجد شيئا ًيَنِدُ عن شرع الله عزوجل ,فما من حدث سيقع إلا ويجد العلماء والفقهاء له حلا ًفي ضوء الكتاب أو السنة أو القياس أو الاجتهاد أو المصالح المرسلة , وبذلك يغطى شرع الله كل أحداث الحياة السابقة واللاحقة .
كلمـــة أخيرة :
ويمكنك الآن أن تدرك أي النظامين يحقق للإنسان إنسانيته , نظام يشرع فيه البشر لبشر مثلهم , لا يخلو من الإجحاف أو غياب المصلحة البشرية في المستقبل , ونظام جاء من عند العليم الخبير , المطلع على احتياجات الإنسان فيما مضى وفيما سيأتي .
فلا يشك عاقل أن مشرعاً غاب عنه أمر المستقبل يقصر تشريعه عن تحقيق متطلبات الإنسان , ومشرع خلق الإنسان ويعلم دخائله , المستقبل عنده كالماضي والحال , فإن تشريعه يحقق للإنسان إنسانيته , من غير أن يتعدى أحد على أحد أو أن يكون له مصلحة في زيد دون بكر .
فالديمقراطية تنتج الشرك في نظر الإسلام , ومن ثَم لا يصح وصف الإسلام بالديمقراطية , رغم وجود نقاط الاتفاق في الحقوق والضمانات , فقد تمر الديمقراطية في تحقيق بعض الحقوق الإنسانية بخط الإسلام , بيد أن هذا المرور لا يصوغ صبغ الإسلام بالديمقراطية , للفارق الضخم في البناء والأساس.
كتبه د/ خادم حسين إلهي بخش