عمر بن محمد السبيل ماهية البصمة الوراثية:
جرى إطلاق عبارة (بصمة وراثية) للدلالة على إثبات هوية الشخص، أخذًا من عينة الحمض النووي المعروف باسم (دنا)، الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه، إذ أن كل شخص يحمل في خليته الجينية (46) من صبغيات الكروموسومات، يرث نصفها وهي (23) كروموسومًا عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الأخر وهي (23) كروموسومًا يرثها عن أمه بواسطة البويضة.
وكل واحد من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية المعروف باسم (دنا) ذات شقين، ويرث الشخص شقًّا منها عن أبيه والشق الأخر عن أمه، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه، ولا مع كروموسومات أمه من كل وجه، وإنما جاءت خليطًا منهما، وبهذا الاختلاط اكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه، مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه، فضلًا عن غيرهما.
وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه، من خلال إجراءات الفحص على جيناته الوراثية، حيث قد دلت الأبحاث الطبية التجريبية على أن نسبة النجاح في إثبات النسب أو نفيه عن طريق معرفة البصمات الوراثية، يصل في حالة النفي إلى حد القطع أي بنسبة 100 %، أما في حالة الإثبات فإنه يصل إلى قريب من القطع، وذلك بنسبة 99 % تقريبًا.
الطرق الشرعية لإثبات أو نفي النسب:
الطرق الشرعية لإثبات النسب:
طرق إثبات النسب خمس: الفراش والاستلحاق والبينة والقافة والقرعة، والثلاثة الأول محل اتفاق بين العلماء [زاد المعاد، ابن القيم، (5/410)].
أولًا: الفراش:
أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على إثبات النسب به، بل هو أقوى الطرق كلها، قال العلامة ابن القيم: (فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة) [زاد المعاد، ابن القيم، (5/410)]، والمراد بالفراش: فراش الزوجة الصحيح، أو ما يشبه الصحيح، فالصحيح هو عقد النكاح المعتبر شرعًا، حيث توفرت أركانه وشروطه، وانتفت موانعه، وأما ما يشبه الصحيح فهو عقد النكاح الفاسد، وهو المختلف في صحته، وكذا الوطء بشبهة على اختلاف أنواعها، فإن حكمه حكم الوطء بنكاح صحيح فيما يتعلق بثبوت نسب المولود الناتج عن ذلك الوطء، فإذا أتت المرأة بولد ممن يمكن أن يولد مثله لستة أشهر منذ الوطء؛ فإن النسب يثبت لصاحب الفراش إذا ولد حال الزوجية حقيقة، أو حكمًا كما في المعتدات، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) [متفق عليه، رواه البخاري، (2053)، ومسلم، (3688)].
ثانيًا: الاستلحاق:
ويعبر عنه أيضًا (بالإقرار بالنسب)، وغالبًا ما يكون في أولاد الإماء، والإقرار بالنسب على نوعين:
الأول: إقرار يحمله المقر على نفسه فقط؛ كالإقرار بالبنوة، أو الأبوة.
الثاني: إقرار يحمله المقر على غيره، وهو ما عدا الإقرار بالبنوة والأبوة، كالإقرار بالأخوة والعمومة.
ثالثًا: البينة:
المراد بها الشهادة، فإن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه، وقد أجمع العلماء على أن النسب يثبت لمدعيه بشهادة رجلين عدلين، واختلفوا في إثباته بغير ذلك: كشهادة رجل وامرأتين، أو شهادة أربعة نساء عدول، أو شهادة رجل ويمين المدعي، حيث قال بكل حالة من هذه الحالات طائفة من العلماء، غير أن مذهب جماهير أهل العلم، وهم المالكية والشافعية والحنابلة، أنه لا يقبل في إثبات النسب بالشهادة إلا شهادة رجلين عدلين [انظر: الهداية شرح البداية، علي بن أبي بكر المرغيناني، (1/117)، والخراشي على خليل، (7/200)، والمهذب، أبو إسحاق الفيروز أبادي، (2/334)، والمقنع مع الشرح الكبير, والإنصاف، موفق الدين ابن قدامة وشمس الدين ابن قدامة والمرداوي، (30/15)، والمحلي، ابن حزم، (9/359)، وثبوت النسب، ص(192)]. رابعًا: القيافة: القائف في الاصطلاح الشرعي: هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود [التعريفات، الجرجاني، ص(91)]، والقيافة عند القائلين بالحكم بها في إثبات النسب، إنما تستعمل عند عدم الفراش والبينة، وحال الاشتباه في نسب المولود والتنازع عليه، فيعرض على القافة، ومن ألحقته به القافة من المتنازعين نسبه؛ ألحق به، وقد اختلف العلماء في حكم إثبات النسب بها على قولين مشهورين: القول الأول: أنه لا يصح الحكم بالقيافة في إثبات النسب، وبه قال الحنفية. القول الثاني: اعتبار الحكم بالقيافة في إثبات النسب عند الاشتباه والتنازع، وبه قال جمهور العلماء، حيث قال به: الشافعية والحنابلة والظاهرية والمالكية في أولاد الإماء في المشهور من مذهبهم، وقيل: في أولاد الحرائر أيضًا. ومما لاشك فيه أن ما ذهب إليه الجمهور من الحكم بالقيافة واعتبارها طريقًا شرعيًّا في إثبات النسب هو الراجح، لدلالة السنة المطهرة على ذلك، وثبوت العمل بها عند عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُعرف لهم مخالف، فكان كالإجماع منهم على الحكم بها.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان حجية العمل بالقيافة في إثبات النسب: (وقد دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل خلفائه الراشدين، والصحابة من بعدهم، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم في الصحابة. وقال بها من التابعين: سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وإياس بن معاوية، وقتادة، وكعب بن سور، ومن تابعي التابعين: الليث بن سعد، ومالك بن أنس وأصحابه، وممن بعدهم الشافعي وأصحابه، وأبو ثور، وأهل الظاهر كلهم.
وبالجملة فهذا قول جمهور الأئمة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: العمل بها تعويل على مجرد الشبه، وقد يقع بين الأجانب، وينتفي بين الأقارب) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(195)].
خامسًا: القرعة:
وهي أضعف طرق إثبات النسب الشرعي، ولذا لم يقل بها جمهور العلماء، وإنما ذهب إلى القول بها، واعتبارها طريقة من طرق إثبات النسب: الظاهرية والمالكية في أولاد الإماء، وهو نص الشافعي في القديم، وفيها قال بعض الشافعية عند تعارض البينتين، وقال بها الإمام أحمد في روايته، وابن أبي ليلى، وإسحاق بن راهويه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وأما من سلك طريق التعليل والحكمة فقد يقول: إنه إذا تعذرت القافة، أو أشكل الأمر عليها؛ كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد، وتركه هملًا لا نسب له، وهو ينظر إلى ناكح أمه وواطئها، فالقرعة ها هنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب، فإنها طريق شرعي، وقد سدت الطرق سواها، وإن كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة، وتعيين الرقيق من الحر، وتعيين الزوجة من الأجنبية؛ فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره؟ والمعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال، والشارع إلى ذلك أعظم تشوفًا.
فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة ولتعيينه تارة، وها هنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة، فعَمِلَتْ القرعة في تعيينه كما عَمِلَتْ في تعيين الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية، فالقرعة تخرج المستحق شرعًا، كما تخرجه قدرًا ... فلا استبعاد في الإلحاق بها عند تعينها طريقًا، بل خلاف ذلك هو المستبعد) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(214)].
الطريق الشرعي لنفي النسب:
من أجل محاسن شريعة الإسلام المباركة، رعايتها للأنساب، وعنايتها بالحفاظ عليها، ومن مظاهر ذلك تشوفها إلى ثبوت النسب ودوامه، وتسهيلها في إثباته بأدنى الأسباب وأيسرها، وتشديدها في نفيه وإبطاله متى ثبت بأحد الطرق المشروعة، حيث لا تقبل الشريعة الإسلامية نفي النسب بعد ثبوته مهما كان الحامل عليه أو الداعي إليه، إلا عن طريق واحد وهو اللعان.
دليل مشروعية اللعان:
دل على مشروعيته: الكتاب، والسنة، والإجماع؛ أما الكتاب: ففي قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].
وأما السنة: فللأحاديث الكثيرة الثابتة في ذلك، ومنها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلًا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة) [متفق عليه، رواه البخاري، (6748)، ومسلم، (3825)].
وأما الإجماع على مشروعية اللعان في الجملة فقد حكاه عدد من العلماء [الإفصاح، أبو عبدالله العكبري البغدادي، (2/167)، ورحمة الأمة، محمد بن عبدالرحمن الدمشقي، ص(295)، وأسهل المدارك، أبو بكر حسن الكشناوي، (2/173ـ174)].
صفة اللعان:
وصفته أن يأمر الإمام أو نائبه الزوج أن يلاعن زوجته، فيقول: أشهد بالله أن زوجتي هذه قد زنت، فيسميها باسمها، أو يشير إليها يكرر ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا أراد نفي الولد، قال: وإن هذا الولد من زنا وليس مني، فإذا فرغ الزوج من لعانه لاعنت الزوجة قائلة: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، تكرر ذلك أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كانت من الصادقين، وإن كان الزوج قد نفى ولدها قالت: وإن هذا الولد منه وليس من زنا.
ويجب على المتلاعنين التقيد بهذه الصفة والألفاظ في اللعان إتباعًا للكتاب والسنة، فإذا حصل شيء من الإخلال بذلك لم يصح اللعان.
آثار اللعان:
فإذا تم اللعان على الصفة المشروعة ترتب عليه الأحكام التالية:
1- انتفاء الولد من الزوج إذا صرح بنفيه، ولحوق نسب الولد بأمه للحديث السابق.
2- سقوط حد القذف عن الزوج إن كانت زوجته محصنة، وسقوط التعزير عنه إن لم تكن محصنة، وسقوط حد الزنا عن المرأة، بنص القرآن على ذلك.
3- وقوع الفرقة المؤبدة بين الزوجين وتحريم نكاحها عليه على التأبيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبيل لك عليها) [متفق عليه، رواه البخاري، (5350)، ومسلم، (3820)].
وهذا هو السبيل الشرعي الوحيد لنفي النسب، أما غير ذلك من الطرق التي كانت شائعة قبل الإسلام، كالتبني، وتحويل النسب، أو التنازل عنه للغير، وغير ذلك؛ فقد أبطلها الإسلام وحرمها، وأجمعت الأمة على تحريمها لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) [متفق عليه، رواه البخاري، (6766)، ومسلم، (229)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترغبوا عن آبائكم, فمن رغب عن أبيه فهو كفر) [متفق عليه، رواه البخاري، (6768)، ومسلم، (227)]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا تباع ولا توهب) [رواه الحاكم في المستدرك، (8106)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، (7157)].
حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب:
بعد بيان ماهية البصمة الوراثية، وإيضاح طرق إثبات النسب الشرعي وطريق نفيه، فإن مقتضى النظر الفقهي لمعرفة حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب، يفرض على الباحث الشرعي النظر في إمكانية اعتبار البصمة الوراثية قرينة يستعان بها على إثبات النسب أو نفيه فحسب، أو اعتبارهما طريقًا من طرق إثبات النسب قياسًا على إحدى الطرق الثابتة شرعًا.
غير أني ـ وقبل بيان ذلك ـ أود القول بأن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها، مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين؛ إلا أنها تظل محل شك ونظر، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة؛ من طب وغيره، يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علميًّا، أو على الأقل أصبح مجال شك ومحل نظر، فكم من النظريات الطبية ـ على وجه الخصوص ـ كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضربًا من الخيال [انظر البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب إثباتًا ونفيًا، د. نجم عبدالواحد، ص(6)، ومناقشات جلسة المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي عن البصمة الوراثية في دورته (15)، ص(6)].
وهذا أمر معلوم وثابت مما يحتم على الفقهاء والباحثين الشرعيين التروي في النظر، وعدم الاندفاع بالأخذ بالنظريات العلمية كأدلة ثابتة توازي الأدلة الشرعية أو تقاربها، فضلًا عن إحلال تلك النظريات محل الأدلة الشرعية الثابتة [انظر مناقشات جلسة المجمع في دورته (15)، ص(7)، وموجز أعمال الندوة الفقهية الحادية عشر حول الوراثة والهندسة الوراثية، ص(85)] ولكن يمكن اعتبارها أمارات تحمل على النسب، أو قرائن قد تدل عليه؛ لأن الشارع يحتاط للأنساب ويتشوف إلى ثبوتها، ويكتفي في إثباتها بأدنى سبب، فإذا ما ثبت النسب فإنه يشدد في نفيه، ولا يحكم به إلا بأقوى الأدلة.
قال ابن قدامة: (فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل) [المغني، ابن قدامة المقدسي، (5/769)].
وقال العلامة ابن القيم: (وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب، فإنما ذاك إذا لم يقاومه سبب أقوى منه، ولهذا لا يعتبر مع الفراش، بل يحكم بالولد للفراش، وإن كان الشبه لغير صاحبه، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد بن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش، ولم يعتبر الشبه المخالف له، فأعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حجب سودة حيث انتفى المانع من إعماله في هذا الحكم بالشبه إليها، ولم يعمله في النسب لوجود الفراش) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(201)].
ومن تشديد الشارع في نفي النسب بعد ثبوته أنه حصر نفيه بطريق واحد فقط وهو اللعان، واشترط لإقامته شروطًا كثيرة تحد من حصوله، وتقلل من وقوعه ـ وقد سبق بيانها ـ وبناء على ذلك فإنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية في نفي نسب ثابت، كما لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان في نفي النسب، بمقتضى نتائجها الدالة على انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه، وذلك لأن اللعان حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وله صفة تعبدية في إقامته، فلا يجوز إلغاؤه، وإحلال غيره محله، أو قياس أي وسيلة عليه مهما بلغت من الدقة والصحة في نظر المختصين به.
وإن كان بعض الفقهاء المعاصرين قد ذهبوا إلى جواز الأخذ بالبصمة الوراثية، والاكتفاء بها عن اللعان، إذا دلت نتائجها على انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه، معللين لذلك بأن الزوج إنما يلجأ إلى اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمى به زوجته، وحيث أن الفحص من خلال البصمة الوراثية قد يدل على صحة قول الزوج، فإنها تكون بمثابة الشهود التي تدل على صدق الزوج فيما يدعيه على زوجته، في حال ثبوت انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه من خلال نتائج البصمة الوراثية [انظر: بحث الشيخ محمد مختار السلامي في ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية، (1/405)].
ومع تقديري للقائلين بهذا القول من الفقهاء؛ فإن فيه من المصادمة للنصوص الشرعية، والجرأة على إبطالها، وإلغاء العمل بها، ما يحمل على رد هذا القول وعدم اعتباره، وذلك لأن الأحكام الشرعية الثابتة لا يجوز إلغاؤها، أو إبطال العمل بها إلا بنص شرعي يدل على نسخها، وهو أمر مستحيل، ولأنه لو أقرت الزوجة بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج، لقوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) [متفق عليه، رواه البخاري، (2053)، ومسلم، (3688)]، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
ولأن اللعان يشرع لدرء الحد حاملًا، ويعلم الزوج أن الحمل منه، ولكنه زنت بعد الحمل فيريد أن يدرأ الحد على نفسه باللعان، فلا يجوز منعه من هذا الحق الثابت له شرعًا، فكيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة، والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقد جاء في مشروع توصية المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة: (أنه لا يجوز استعمال البصمة الوراثية في نفي النسب استقلالًا اكتفاء عن اللعان، ولا استعمالها في نفي نسب من ثبت نسبه بأي دليل شرعي) [مناقشات جلسة المجمع الفقهي عن البصمة الوراثية في دورته (15)، ص(21)].
وقال الشيخ محمد الأشقر: (إنه لن يكون مقبولًا شرعًا استخدام الهندسة الوراثية، والبصمة الوراثية، لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي صحيح من الطرق التي تقدم بيانها، ولكن مجال العمل بالبصمة الوراثية سيكون في إثبات أو نفي أبوة لم تثبت بطريق شرعي صحيح ...) [إثبات النسب بالبصمة الوراثية ضمن ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية، (1/454)].
هذا ومع أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان؛ فإنه يحسن الاستعانة بها، على اعتبار أنها قرينه قد تحمل الزوج على العدول عن اللعان، فيما إذا ثبت من خلال نتائج البصمة الوراثية أن المولود على فراشه هو ابنه قد تخلق من مائه، وهذه مصلحة شرعية، يدعو إليها الشرع المطهر ويتشوف إليها، لما فيها من تأكيد للأصل الشرعي، وهو (أن الولد للفراش)، ولما فيها من درء مفسدة اللعان وضرره، فإن أصر الزوج على طلب اللعان للانتفاء من نسب المولود على فراشه، فذلك حق له، لا يجوز منعه منه بناء على ما ظهر من نتائج البصمة الوراثية، من كون المولود المراد نفيه هو ابنه.
ولو أن اللعان تم بين الزوجين، وانتفى الزوج من الولد، ثم أكذب نفسه، وعاد واستلحق الولد بنسبه، فإنه يلحق به، سواء أكان استلحاقه بسبب ما ظهر له من نتائج البصمة الوراثية قبل اللعان، أو حتى بعده، والتي تدل على أنه ولده، أو لم يكن استلحاقه بعد اللعان بسبب، لأن الفقهاء أجمعوا على أن الملاعن إذا أكذب نفسه، واستلحق الولد بعد نفيه؛ فإنه يقبل منه ويلحقه نسبه، لتشوف الشارع إلى ذلك، لكن يقام عليه حد القذف إن كانت الزوجة محصنة، ويعزر إن لم تكن محصنة) [انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، (7/419)، والشرح الكبير، (5/29)، وبداية المجتهد، ابن رشد، (2/90)].
وأما إذا تبين من خلال نتائج البصمة الوراثية صحة ما يدعيه الزوج، من كون أن المولود على فراشه ليس ابنه، فذلك قرينه تقوي جانب الزوج، وتؤكد حقه في اللعان.
فالخلاصة؛ أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان، على اعتبار أن نتائجها عند ذوي الاختصاص بها قطعية، أو قريبة من القطعية، وذلك لأن الحكم الشرعي لا يجوز إبطاله وترك العمل به إلا بدليل نصي، وهو غير ممكن، غير أن الحاكم الشرعي يجدر به أن يستفيد من هذه التقنية الحديثة المتطورة، وإجراء الفحوصات المخبرية للبصمة الوراثية للاستعانة بها كقرينة من القرائن التي يستعان بها على التحقق من صحة دعوى الزوج أو عدمها، بغرض الحيلولة دون وقوع اللعان قدر المستطاع، لحض الشارع على درء ذلك ومنعه، وتشوفه لاتصال الأنساب وبقاء الحياة الزوجية.
حكم استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب:
نظرًا لتشوف الشارع إلى ثبوت النسب وإلحاقه بأدنى سبب؛ فإن الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب، في الحالات التي يجوز فيها الحكم بثبوت النسب بناء على قول القافة ـ أمر ظاهر الصحة والجواز، وذلك لأنه إذا جاز الحكم بثبوت النسب بناءً على قول القافة، لاستنادها على علامات ظاهرة، أو خفية مبنية على الفراسة والمعرفة والخبرة في إدراك الشبه الحاصل بين الآباء والأبناء؛ فإن الأخذ بنتائج الفحص بالبصمة الوراثية، والحكم بثبوت النسب بناء على قول خبراء البصمة الوراثية أقل أحواله أن يكون مساويًا للحكم بقول القافة، إن لم تكن البصمة أولى بالأخذ بها.
والحكم بمقتضي نتائجها من باب قياس الأولى، لأن البصمة الوراثية يعتمد فيها على أدلة خفية محسوسة من خلال الفحوصات المخبرية، التي علم بالتجارب العلمية صحة نتائجها الدالة على وجود الشبه، والعلاقة النسبية بين اثنين أو نفيه عنهما، كما قال أحد الأطباء المختصين: (إن كل ما يمكن أن تفعله القافة يمكن للبصمة الوراثية أن تقوم به، وبدقة متناهية، وقد نص بعض الفقهاء على ترجيح قول القائف المستند في قوله إلى شبه خفي على قول القائف المستند في قوله إلى شبه ظاهر، معللين لذلك: بأن الذي يستند في قوله إلى شبه خفي معه زيادة علم تدل على حذقه وبصيرته.
ومما لاشك فيه أن البصمة الوراثية فيها من زيادة العلم والحذق، واكتشاف المورثات الجينية الدالة على العلاقة النسبية؛ ما لا يوجد مثله في القافة، ومع ذلك فإن (القياس وأصول الشريعة تشهد للقافة، لأن القول بها حكم يستند إلى إدراك أمور خفية وظاهرة توجب للنفس سكونًا، فوجب اعتباره كنقد الناقد وتقويم المقوم) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(198)]، ولأن قول القائف (حكم بظن غالب، ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة؛ فجاز، كقول المقومين) [المغني، ابن قدامة، (5/768)].
فكذلك الحال بالنسبة للبصمة الوراثية لما فيها من زيادة العلم والمعرفة الحسية بوجود الشبه، والعلاقة النسبية ما لا يوجد مثله في القافة، مما يحمل على الحكم بمشروعية الأخذ بها في مجال إثبات النسب في الحالات التي يجوز فيها الحكم بناء على قول القافة، قياسًا عليها، ولأن الأصل في الأشياء ـ غير العبادات ـ الإذن والإباحة، وأخذًا من أدلة الشرع العامة، وقواعده الكلية في تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، لما في الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب من تحقيق لمصالح ظاهرة، ودرء لمفاسد قصيرة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب؛ من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيًا في ثبوته ...) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(201)].
وقال أيضًا: (بل الشبه نفسه بيِّنه من أقوى البيانات، فإنها اسم لما يبين الحق ويظهره، وظهور الحق ها هنا بالشبه أقوى من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب، وأقوى بكثير من فراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(209)].
وقال شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله: (إن الأساس في هذا كله مراعاة الشبه الذي يراه المختصون، فإذا كان ولد تنازعت فيه امرأتان، أو تنازع فيه أبوان أو ثلاثة، أُمَّان أو أكثر فهذا محل البحث ... فيمكن للثقات الذين يعرفون الشبه سواء بالبصمة أو غيرها أن يشهدوا أن هذا ولد فلانة، وهذا ولد فلانة عند الاشتباه) [مناقشات جلسة المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بشأن البصمة الوراثية في دورته (15)، ص(13)].
فالبصمة الوراثية، والاستدلال بها على إثبات النسب يمكن أن يقال بأنها نوع من علم القيافة، وقد تميزت بالبحث في خفايا وأسرار النمط الوراثي للحامض النووي بدقة كبيرة، وعمق ومهارة علمية بالغة، مما يجعلها تأخذ حكم القيافة في هذا المجال من باب أولى، فيثبت بالبصمة ما يثبت بالقيافة، مع وجوب توفر الشروط والضوابط التي وضعها الفقهاء في القافة، عند إرادة الحكم بإثبات النسب عن طريق البصمة الوراثية [انظر: البصمة الجينية وأثرها في إثبات النسب، د. حسن الشاذلي، ضمن ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية، (1/494)].
وجاء في توصية ندوة الوراثة والهندسة الوراثية ما نصه: (البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالديه البيولوجية، والتحقق من الشخصية، ولاسيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية، التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطورًا عصريًّا عظيمًا في مجال القيافة، الذي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى) [ملخص أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب، ص(46)].
وبناء على ذلك فإنه يمكن الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية:
1- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أو كان بسبب اشترك في وطء شبهه ونحوه [حيث ذكر فقهاء الشافعية والحنابلة صورًا كثيرة لكلا النوعين، انظر في هذا: روضة الطالبين، النووي، (4/506)، مغني المحتاج، الخطيب الشربيني، (4/489 ـ490)، والمغني، ابن قدامة المقدسي، (5/771)، والإنصاف، المرداوي، (6/456)].
2- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية المواليد والأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
3- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث والكوارث وتعذر معرفة أهليهم، وكذا عند وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها بسبب الحروب، أو غيرها.