إذا كان بعض المعاصرين يرون أن المظاهرات بدعة مستوردة من الغرب، لم ترِد في قرآن أو سنة، وبالتالي فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإذا كان البعض الآخر قد اعتبرها "فسادًا في الأرض وليست من الإصلاح في شيء"، فإن جمهور العلماء المعاصرين ينطلقون من أن المظاهرات حق يكفله الدستور وينظمه القانون، ويجيزه الشرع الحنيف.
وأن المظاهرة إذا كانت تعبر عن رأي وطني وضرورة محاسبة الأعداء وعن إسقاط الظلمة وتغيير المنكر بأسلوب حضاري؛ فهذا يعد من التعبير عن الرأي، وهو حرية من الحريات المكفولة في الإسلام والشرائع المختلفة، ولا مانع حينئذٍ من التظاهر، وأهمية المظاهرات ودورها معلوم في التاريخ، حيث لها أثر كبير في طرد المستعمر من بلاد المسلمين.
وثمة اتجاهان للعلماء في التأصيل لهذه المشروعية:
الاتجاه الأول: يرى أن هذه المظاهرات من أمور العادات وليست من أمور العبادات، والأصل في العادات الحل والجواز ما لم يرد دليل على الحرمة، فالمظاهرات وسيلة تأخذ أحكام الوسائل، والأصل في الوسائل الإباحة، فإن كان المقصود من هذا التظاهر إظهار الحق، ورفض الظلم، وكشف الجرائم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله؛ فهي ممدوحة مندوبة، بل قد تصل إلى الوجوب أحيانًا.
وبناءً على ذلك؛ لا بأس أن يتجمع المسلمون ويخرجوا في مظاهرات لاستنكار أمر معين، ويعلنوا رفضهم له، ويطالبوا بالتدخل لمنعه إذا كانت هذه الطريقة مجدية ونافعة، ولسنا بحاجة إلى التدليل أو التأصيل لمشروعية العادة ما لم تصادم الشرع.
الاتجاه الثاني: يرى أن هذه المظاهرات مع العلم بأن الأصل فيها الإباحة غير أنا لا نعدم أدلة كثيرة في تراثنا الإسلامي على مشروعية التظاهر، فالتظاهر مع الحق، وضد الباطل سنة مشروعة جارية، سنَّها الله في إظهار الإنكار على الفساد في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وسنَّها في الابتهاج بالأعياد، ووداع الرسول صلى الله عليه وسلم للغزاة حين خروجهم والاحتفال بهم حال عودتهم، وفي إظهار القوة كما فعل مع أبي سفيان فألزمه رؤية قوة المسلمين، وقطع الطريق عليه أن يفكر في إمكان مواجهة القوة الضاربة للإسلام، ومن قبل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفين أن يهرولوا في الطواف؛ إظهارًا لقوة وصحة أجسامهم.
وإن كان حق التظاهر مكفولًا للجميع بإباحة الشرع، ونص الدستور، وتنظيم القانون، غير أن هذا الحق مقيد بألا يترتب عليه ضياع حق الغير، فلا يجوز أن تحدث المظاهرات ضررًا بالغير أو ائتلافًا لماله أو ممتلكاته.
بل الواجب أن تخلو من أي نوع من أنواع الإيذاء المادي أو المعنوي للآخرين، فلا سب ولا قذف، ولا إيذاء، وعلى قوات الأمن التعاون مع المتظاهرين لإنجاح هذه المظاهرات وإخراجها بشكل حضاري لائق بتعاليم الإسلام والأعراف والتقاليد الإسلامية والعربية.
وإذا كانت المظاهرات على هذا الوجه من الإباحة وفق الضوابط السابقة، فإنها أكثر وضوحًا في المشروعية بالنسبة للفلسطينيين الذين يخوضون نضالًا ضد المغتصب الصهيوني، ويوظفون المظاهرات من أجل الضغط عليه والحصول على حقوقهم، وكشف جرائمه في حقهم أمام العالم.
والقانون الدولي يقر حق التظاهر، ويفرض إجراءات للحفاظ على المتظاهرين وأمنهم وسلامتهم، ويمنع إيذاءهم أو إهانتهم، ويستخدم الصهاينة الرصاص المطاطي في قمع المظاهرات الفلسطينية رغم أنه من أخطر أنواع الأسلحة التي تقمع بها "إسرائيل" الفلسطينيين، وهي تسبب حالة من الخوف والرعب المستمر لهم أثناء المظاهرات السلمية التي ينظمونها لوقف مصادرة أراضيهم ولمنع التعديات الإسرائيلية عليهم.
وقد أكدت مؤسسات حقوقية خطورة هذا الرصاص وأدانته، بعد أن تم التأكد أن جنود الاحتلال يتعمدون إطلاق الرصاص المطاطي على المواطنين الذين يدافعون سلميًّا عن أرضهم، حيث يطلق الجنود الصهاينة الرصاص من مسافات قريبة تقل عن 40 مترًا، وهو الحد المسموح به، كما أنه يطلق بقصد القتل وبشكل مباشر وليس لتفريق المتظاهرين.
وخطورة هذا الرصاص تكمن في إطلاقه من مسافات قريبة وبشكل مباشر، فجنود الاحتلال يطلقون الرصاص المطاطي من مسافة تقل عن 40 مترًا وبشكل عشوائي، رغم أنه من الممكن أن يؤدي للموت أو الشلل إذا أصاب منطقة حساسة من الجسم.
"إسرائيل" لا تعترف بأنها تطلق النار على المتجمهرين في المسيرات السلمية دون سبب، وتتذرع دومًا بأنهم رشقوا الجنود بالحجارة واقتربوا من المكان المحظور عسكريًّا.
المنظمات الحقوقية تؤكد أيضًا أن إطلاق الرصاص المطاطي على المواطنين ليس كما يدَّعي جنود الاحتلال وفقًا للأوامر وبالأبعاد المسموح بها، وإنما يُطلق دون أن يُرشق الجنود بالحجارة أو يشتبك معهم المواطنون.
يُذكر أن هذا النوع من الرصاص يوجد على عدة أشكال، منها أسطواني ومنها كروي، ويحتوي على عدة كرات معدنية صغيرة داخل كل رصاصة وهو النوع الأخطر، ويغطي الرصاص بمادة المطاط أو البلاستيك لكن هذا لا يقلل من خطورته.
الخبراء الدوليون يؤكدون أن الرصاص المطاطي يشكل خطورة كبيرة، ويجب ألا تستخدمه السلطات أثناء الاضطرابات وأعمال الشغب، فهذا النوع من الرصاص الذي يفترض أنه أقل خطرًا من الرصاص الحي، ولا يسبب سوى جروح طفيفة، يؤدي في الواقع إلى إصابات بالغة قد تنتهي بالوفاة.
وأخيرًا، فإن "إسرائيل" تعتبر نفسها دولة فوق القانون، فهي لا تلتزم ولا تحترم أي من الاتفاقيات الدولية التي تحمي المواطنين الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال، وتستخدم في محاربتها للمظاهرات والاحتجاجات الفلسطينية كل ما لديها من أسلحة جهنمية، سواء أكانت محرمة دوليًّا أم لا، واستخدم الجيش الإسرائيلي خلال تفريق التظاهرات الجماهيرية الفلسطينية، وسائل عسكرية وقوة مميتة لا تستخدم إلا للمعارك الحربية بين الجيوش، وليس لمواجهة المدنيين بدلًا من الوسائل الشرطية اللازمة لحماية أرواح الناس، ضاربة بعرض الحائط ما نصت عليه المعايير الدولية.