الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد، ووضع الأرض، وهيَّأها للعِبَاد، وجعلها مَقرَّهم أحياءً وأمواتًا، فمنها خلقهم وفيها يعيدهم، ومنها يخرجهم تارةً أخرى يوم الحشر والتناد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العزة والقوة والاقتدار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإننا في هذه الدنيا مسافرون إلى الدار الآخرة، ولابد من زاد لنا في هذه الرحلة، وأيُّ زادٍ خير من الزاد الذي أمرنا الله أن نتزوَّد به؛ بقوله - سبحانه - في محكم التنزيل: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]؟!
فما هي التقوى؟ وما صفات المتقين؟ وما النتائج المترتبة على التقوى؟
التقوى لغةً: هي الاسم من قولهم: "اتَّقى"، والمصدر "الاتِّقاء"، وكلاهما مأخوذ من مادة (و ق ى) التي تدلُّ على دفع الشيء بغيره، وقال الراغب ما خلاصته: "الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره".
أما تعريفات الصحابة والعلماء للتقوى، فكثيرة، نذكر منها:
روي أن عمر بن الخطاب سأل أُبَي بن كعب عن التقوى، فقال له أُبَي: "أما سرت في طريق به شوك؟ فقال عمر: بلى، فقال له: فماذا فعلت؟ قال: شمَّرت واجتهدت؛ (أي: رفع إزاره واجتهد ألا يطأ على الشوك)، فقال له أُبَي: فتلك التقوى".
إذًا؛ التقوى أن تجاهد نفسك ألا تقع في المعاصي والآثام.
وبهذا المعنى، قال الناظم:
خَلِّ الذُّنَوْبَ صَغِيرَهَا *** وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ *** ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً *** إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى
والتقى جاء بها الأمر من الله - سبحانه وتعالى - وجاءت بها السُّنة النبويَّة الشريفة؛ قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)[الحج: 1]، وقال - تعالى -: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)[النحل: 2]، وقال - تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[البقرة: 189]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السُّنة - أيضًا - قد وردت فيها الأحاديث الكثيرة التي تحثُّ على التقوى وتأمر بها؛ فعن أبي نجيح: العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بعد صلاة الغداة موعظةً بليغةً، ذرفتْ منها العيون، ووَجِلَتْ منها القلوبُ، فقال رجل: إن هذه موعظة مودِّعٍ، فماذا تعْهد إلينا يا رسول الله؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشي؛ فإنه من يعش منكم، يرى اختلافًا كثيرًا، وإيَّاكم ومحدثَات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجذ))".
الشاهد أنه - صلى الله عليه وسلم - عندما طلبوا منه وصيةً، بدأ وصيته بذكر التقوى، فكانت وصيةً لكل الأمة، وكذلك كانت هذه هي وصيته لمن طلب منه الوصية؛ فعن أبي سعيد الخدري: "أن رجلاً جاءه، فقال: أوصني، فقال: سألت عمَّا سألتُ عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبلك، أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس كلِّ شيءٍ، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله، وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض"؛ رواه أحمد.
إلى غير ذلك من الأحاديث، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في دعائه التقوى، وهو أتقى خلق الله؛ فقد جاء في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو بهذه الدعوات: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى)).
أما صفات المتقين، فهي كثيرة وسوف نكتفي بذكر بعض صفاتهم، وذلك من خلال ذكر بعض الآيات التي تحدَّثت عن صفاتهم.
قال - تعالى -: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 1 - 2]، بعد هذه الآية يذكر الله صفات المتقين بقوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة: 3 - 4]، وقال - تعالى - في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[آل عمران: 133 - 136].
أما فوائد التقوى، فيكفيه أن الله قد تكفَّل له في الدنيا بأن يجعل له من كلِّ هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضِيقٍ مخرجًا؛ قال - تعالى -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2]، وقال - تعالى-: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29]، أما في الآخرة، فجنة عرضها السموات والأرض.
قال وهب بن منبه: "الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله الفقه".
ورحم الله القائل إذ يقول: "من كان رأس ماله التقوى، كلّت الألسن عن وصف ربح دينه، ومن كان رأس ماله الدنيا، كلت الألسن عن وصف خسران دينه".
اللهم ارزقنا التقوى في السر والعلن، واجعلنا من عبادك المتقين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
========================
يوسف المطردي