أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضل مكتَسَب، وطاعته أعلى نسَب، (يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ).
أيّها المسلمون، تتفاوت البلدان والأوطانُ شرفًا ومكانة وعلوًّا وحرمَة ومجدًا وتأريخًا، وتأتي المدينة النبويّةُ بلد المصطفى أرضُ الهجرة ودار الإيمان وموطِد السنّة في المكان الأعلى والموطن الأسمى، هي بعدَ مكّةَ سيّدة البلدان، وثانيتها في الحرمة والإكرام والتعظيم والاحترام، فيها قامت الدّولة النبوية والخلافة الإسلاميّة، وصدَق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أمِرتُ بقريةٍ تأكل القرى، يقولون: يثربُ، وهي المدينة)) متفق عليه.
دارةُ المحاسن ودائِرة الميامن، طيبة الغرّاء وطابةُ الفيحاء، توسِع العينَ قرّة والنفسَ مسرّة، الفضائل مجموعةٌ فيها، والإيمان يأرِز في نواحيها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((إنّ الإيمانَ ليأرِز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها)) متفق عليه، وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: ((إنّ الإسلامَ بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجِدين كما تأرز الحيّة إلى جحرها)) أخرجه مسلم، وعند الحاكم والبيهقيّ من حديث جابر - رضي الله عنه - أنّ رسول الله قال: ((ليعودَنَّ كلّ إيمان إلى المدينة، حتى يكونَ كلّ إيمانٍ بالمدينة)).
هي متنفَّس الخواطِر ومَرتع النواظر، بلدةٌ معشوقَة السّكنى طيِّبة المثوى، سكنُها مع الإيمان شرفٌ بالغ، واستيطانها مع التّقوى عزٌّ شامخ، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن استطاعَ أن يموتَ بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها)) أخرجه أحمد والترمذيّ وابن ماجه، وعند النسائيّ من حديث صُمَيتة: ((مَن مات بالمدينة كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)).
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (اللهمَّ ارزُقني شهادةً في سبيلك، واجعَل موتي في بلدِ رسولك محمّد) أخرجه البخاري.
فيا هناءَةَ ساكنيها ويا سعادة قاطنيها، ويا فوزَ من لزم الإقامةَ فيها حتى جاءته المنيّة في أراضيها.
في البعدِ عنها يهيجُ الشّوق إليها، ويتضاعَف الوَجد عليها، وكان رسول الله إذا قدِم مِن سفر ونظر إلى جُدُراتها ودوحاتها ودرجاتها أوضع راحِلته، وحرّكها واستحثّها، وأسرع بها لحبِّه لها، فهي حبيبة المحبوب القائل: ((اللهمّ حبِّب إلينا المدينةَ كحبِّنا مكّة أو أشدّ)) متفق عليه[.
ولا غروَ فهي دارُه ومهاجَره، فيها نصِب محرابه ورُفع منبره، وفيها مضجعه ومنها مبعثه، وفيها أحُدٌ جبلٌ يحبّنا ونحبّه، بلده البديع ودِرعه المنيع وحِصنه الرفيع، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((رأيتُ أني في دِرعٍ حصينة، فأوّلتها المدينة)) أخرجه أحمد.
بلدةٌ آمِنة، ومدينة ساكنة، لا يُهراق فيها دم، ولا يحمَل فيها سلاحٌ لقتال، فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: أهوى رسول الله بيده إلى المدينة فقال: ((إنها حَرَم آمِن)) أخرجه مسلم.
لا يكيد أهلَ المدينة أحَد أو يريدهم بسوءٍ أو شرّ إلا انْماع كما ينماع المِلح في الماء، يقول رسول الهدى: ((مَن أخاف أهلَ المدينة ظُلمًا أخافه الله - عز وجل -، وعليه لعنة الله والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً)) أخرجه أحمد، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن أخاف أهلَها فقد أخاف ما بين هذين)) وأشار إلى ما بين جنبيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. أخرجه ابن أبي شيبة.
ومِن مناقبها المأثورَة وفضائِلها المشهورة أنها محفوظةٌ مصونة محروسة محفوفة، لا يدخلها رُعب الدّجال ولا فزعُه، ولا يرِدها ولا تطؤُها قدمه، محرَّم عليه أن يدخل نقابها أو يلِج أبوابها، يريدُها فلا يستطيعها، الملائكةُ على أنقابها وأبوابها وطرُقها ومحادّها صافّون بالسّيوف صلتة، يحرسونها ويذبّونه عنها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((على أنقابِ المدينةِ ملائكةٌ، لا يدخلها الطاعون ولا الدّجال)) متفق عليه، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((يأتي المسيحُ من قِبل المشرق همّتُه المدينة، حتى ينزل دُبُر أحُد، ثمّ تصرف الملائكة وجهَه قِبَل الشام، وهناك يهلك)) أخرجه مسلم.
يأتي الدجالُ سَبخة الجُرف عند مجتمَع السيول عند الضّرَيب الأحمر، فيضربُ رواقه، وترجف المدينة بأهلها ثلاثَ رجفات، فيخرج إليه كلّ منافق ومنافقةٍ وكلّ كافر وكافرة وكلّ مشرك ومشركةٍ، وصدق رسول الله: ((لا تقوم السّاعة حتى تنفِيَ المدينة شِرارها كما ينفي الكير خبثَ الحديد)) أخرجه مسلم.
هي حرام ما بين لابَتَيها وحرَّتَيها وجبَليها ومأزِميها، لا ينفَّر ولا يُصاد صيدها، ولا يؤخَذ طيرها، ولا يعضَد شوكها، ولا يخبَط شجرها، ولا يُقطع عِضاهها، ولا يختلى خَلاها، ولا تؤخَذ لقطتُها إلا لمن يعرِّفها، يقول رسول الهدى: ((إنّ إبراهيمَ حرّم مكّة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطَع عضاهها، ولا يصاد صيدها)) أخرجه مسلم، ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: لو رأيت الظباءَ في المدينة ما ذعرتها، قال رسول الله: ((ما بين لابتَيها حرام)) متفق عليه، ويقول عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان أبو سعيدٍ يجِد أحدَنا في يده الطير قد أخذَه، فيفكّه من يدِه ثمّ يرسلِه. أخرجه مسلم.
ومَن أظهرَ فيها بدعةً أو حدَثًا أو شِركًا أو آوى زانيًا أو مبتدِعًا فقد عرّض نفسه للوعيد الشديد واللّعن الأكيد، يقول رسول الهدى: ((المدينة حرَم ما بين عَير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً)) متفق عليه.
أيّها المسلمون، في سُكنى المدينة النبويّة من الفوائدِ الشرعيّة والعوائد الأخرويّة والمصالح الدينية والسعادة النفسية ما يستحقَر دونها كلّ عيش واسع ورغدٍ ورفاه في غيرها من البلدان والأوطان، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله قال: ((يأتي على النّاس زمان يدعو الرجل ابنَ عمّه وقريبه: هلمّ إلى الرخاءِ هلمّ إلى الرخاء، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرجُ منهم أحدٌ رغبةً عنها إلا أخلفَه الله فيها خيرًا منه)) أخرجه مسلم، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ليسمعَنَّ ناسٌ برُخصٍ من أسعار ورزق، فيتبعونه، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)) أخرجه البزّار والحاكم وصحّحه].
الصلاةُ في مسجدها مضاعفة الجزاء فرضًا ونفلاً في أصحّ قولي العلماء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبي قال: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلاّ المسجد الحرام)) متفق عليه.
وفي هذا المسجِد المبارك بُقعة هِي روضة من رياض الجنّة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((ما بين بيتي ومِنبري روضةٌ مِن رياض الجنّة، ومنبري على حوضي)) متفق عليه، وعند أحمد: ((ومنبري هذا على تُرعة من ترَع الجنة))، وعند النسائي: ((إنّ قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة)).
وثبت الفضلُ في الصلاة في مسجدِ قباء عن المبعوث في أمّ القرى، فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((مَن تطهّر في بيته ثم أتى مسجدَ قباء فصلّى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة)) أخرجه ابن ماجه.
هذه هي المدينةُ، فضائلها لا تحصى، وبركاتها لا تستقصى، ومع ذلك كلّه فسيأتي عليها زمان في آخر الأزمان عند قيام الساعة يقول فيه النبي: ((تتركون المدينةَ على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف - يريد عوافيَ السباع والطير-.
=====================
عبدالرحمن الجليل