رحم الله رجل وزن أمة، والذي تحتاج سيرته إلى مجلدات، ولكنها قطفات من إنفاقه وبذله - رضي الله عنه - نتعلم منها كيف يستظل البذل بمظلة التوحيد، فلا يكون الإنفاق إلا ابتغاء وجه رب العباد.
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، ثاني اثنين إذ هما في الغار، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو أحب النساء إليه أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها -.
انفق ماله كله في سبيل الدعوة الإسلامية، وكرمه ربُنا - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز، شهدت حياته إنفاقات خيرية عديدة، حتى في لحظات احتضاره نجده ينفق في سبيل الله، نموذج فريد للبذل والعطاء الصافي الخالص الذي لا يبتغى منه إلا وجه الله - تعالى -، صوره الانفاقية عديدة، وإنفاقه الخفي بلا شك أعظم وأكثر ولا يعلمه إلا الله.
نعيش اليوم مع بعض صور خيرية هذا العملاق، لنتعلم منه كيف أثر إنفاقه في بناء الدولة الإسلامية، ونرى كيف تكون منهجية الخيرية المباركة، لنقتدي بها طامعين اصطحاب البركة في كافة أعمالنا الخيرية.
ترجمته -رضي الله عنه-:
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة.
سمي عتيقاً لأسباب عديدة، منها ما جاء في تاريخ الفضل لابن دكين، أنه سمي عتيقاً لأنه قديم في الخير (الإصابة في تمييز الصحابة).
أسلم على يديه عثمان وطلحة، والزبير وسعد، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -، وجميعهم من العشرة المبشرين، فطوبي لمن كان في ميزان حسناته هؤلاء العمالقة المبشرون بالجنة.
القرآن الكريم وتكريم أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
ذكر الإمام البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، أن منهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي - رضي الله عنه -.
وفيهم قول الله - تعالى -: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) [الحشر: 8].
وقال - تعالى -: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَاللَهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40]، قالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس - رضي الله عنهم -: وكان أبو بكر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار.
أما شهادة الله الثابتة للصديق فهو قوله - تعالى -: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [ الليل 17-21].
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "وقوله - تعالى -: (وسيجنبها الأتقى) أي سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى، ثم فسره بقوله: (الذي يؤتي ماله يتزكى) أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله، وما وهبه الله من دين ودنيا، (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً، فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك (ابتغاء وجه ربه الأعلى) أي طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات قال الله - تعالى -: (ولسوف يرضى) أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات.
نماذج من خيريته رضي الله عنه:
1- أنفق ماله كله في سبيل الدعوة الإسلامية، وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله:
أخرج أبو داود في الزهد بسند صحيح، عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم، قال عروة وأخبرتني عائشة أنه مات وما ترك ديناراً ولا درهماً.
وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه، حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا هشام عن أبيه: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله، أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة، وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية بني المؤمل وأم عبيس.
وأخرج من طريق أسامة بن زيد أسلم عن أبيه كان أبو بكر معروفاً بالتجارة، وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أربعون ألفاً فكان يعتق منها ويعول المسلمين حتى قدم المدينة بخمسة آلاف وكان يفعل فيها كذلك، وأخرجه بن الأعرابي بالزهد بسند آخر إلى بن عمر نحوه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر))، فبكى أبو بكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله"؟.
2- جمع خصال الخير جميعها في يوم واحد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح منكم صائماً))؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تصدق بصدقة))؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ((من شهد جنازة))؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ((من أطعم اليوم مسكيناً))؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ((من جمعهن في يوم واحد وجبت له -أو غفر له-)) رواه مسلم.
3-أسبق الصحابة في فعل الخيرات:
عن الشعبي قال: لما نزلت: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي)...[البقرة 271] إلى آخر الآية قال: جاء عمر بنصف ماله يحمله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رؤوس الناس، وجاء أبو بكر بماله أجمع يكاد يخفيه من نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تركت لأهلك))؟ قال: "عدة الله، وعدة رسوله"، قال: يقول عمر لأبي بكر: بنفسي أنت وبأهلي أنت، ما استبقنا باب خير قط إلا سبقتنا إليه.
وقد رواه أبو عيسى الترمذي، هارون بن عبد الله البزاز، عن الفضل بن دكين، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، قال: فجئت بنصف مالي، فقال: ((ما أبقيت لأهلك))؟ قلت: مثله، وجاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك))؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً.
4- السعي على المرأة المسكين العجوز مع الحرص على الخفية في السعي:
كان - رضي الله عنه - حريصاً على فعل الخيرات في الخفاء، إيماناً منه بفضل الصدقة الخفية وقتلاً للرياء، ولأنه - رضي الله عنه - من الذين صدقوا الله في الإنفاق فأرادوا أن يكون عملهم لله، فحرصوا بذلك على ألا يطلع على أعمالهم الخيرية أحد إلا الله، فعن أبي صالح الغفاري: أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء، في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كي لا يسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري!!. (أسد الغابة).
5- خلافته - رضي الله عنه - وإنفاقه على المسلمين:
لأن سمت رعاية فقراء المسلمين من الخصال الراسخة في وجدان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقد ترجم ذلك في إدارته لأحوال المسلمين إبان خلافته الراشدة، فقد كان لأبي بكر الصديق بيت مال معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له: يا خليفة رسول الله ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، فقيل له: لم؟ قال: عليه قفل، وكان - رضي الله عنه - يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيء، فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوله فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها، وكان يسوي بين الناس في القسم: الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير فيه سواء.
ولما توفي ودفن، دعا عمر بن الخطاب الأمناء ودخل بهم بيت المال ومعه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه ديناراً ولا درهما فترحموا على أبي بكر. وكان بالمدينة وزان على عهد رسول الله، وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال فسئل الوزان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ فقال: مائتي ألف.
رحم الله رجل وزن أمة، والذي تحتاج سيرته إلى مجلدات، ولكنها قطفات من إنفاقه وبذله - رضي الله عنه - نتعلم منها كيف يستظل البذل بمظلة التوحيد فلا يكون الإنفاق إلا ابتغاء وجه رب العباد.============================
الهيثم زعفان