السؤال:
إذا كان كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، فما هي أسباب العجز وأسباب الكيس؟.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد:
سؤالك هذا عن القدر والأسباب فهو سؤال قديم جديد، سأله قوم أقدمون، ويتجدد كل حين في أذهان بعض المسلمين، ومن ثم فقد تمت الإجابة عليه من علماء الإسلام كل على حسب أسلوبه في الإجابة، فمنهم من أجاب على منهج الفلاسفة، ومنهم على طريقة أهل المنطق، وآخرون على طريقة علماء الكلام، وكل ذلك يصب في إجابة واحدة دارت عليها كثير من الأدلة الشرعية، فاعلم أخي الكريم:
(أ) أن الأخذ بالأسباب لا ينافي القدر بل هو من القدر أيضًا. ولهذا حين سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الأدوية والأسباب التي يتقى بها المكروه، هل ترد من قدر الله شيئًا، كان جوابه الحاسم: ((هي من قدر الله )) أخرجه رواه أحمد (15472)، والترمذي (2065)، وابن ماجه (3437)، وحسنه الترمذي.
ولما انتشر الوباء في بلاد الشام قرر عمر بمشورة الصحابة العدول عن دخولها، والرجوع بمن معه من المسلمين. فقيل له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟!. أخرجه مسلم (2219)
(ب) إن القدر أمر مغيب مستور عنا: فنحن لا نعرف أن الشيء مقدر إلا بعد وقوعه، أما قبل الوقوع فنحن مأمورون أن نتبع السنن الكونية، والتوجيهات الشرعية لنحرز الخير لديننا ودنيانا. إنما الغيب كتاب صانه عن عيون الخلق رب العالمين. ليس يبدو منه للناس سوى صفحة الحاضر حينًا بعد حين. وسنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب، كما فعل ذلك أقوى الناس إيمانًا بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وقاتل بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: ((اعقلها وتوكل)) (رواه ابن حبان (731) بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضمري ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (971)، والحاكم 3/722 بإسناد جيد بلفظ "قيدها وتوكل")، وقال: ((فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)) أخرجه البخاري معلقا في كتاب الطب، باب الجذام، ووصله أحمد (9722)، و ((لا يورد ممرض على مصح )) أخرجه البخاري (5771)، ومسلم (2221) أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله بالإبل السليمة، اتقاء العدوى.
(ج) الإيمان بالقدر إذن لا ينافي العمل والسعي والجد في جلب ما نحب، واتقاء ما نكره. فليس لمتراخ أو كسلان أن يلقي على القدر كل أوزاره وأثقاله، وأخطائه وخطاياه، فهذا دليل العجز والهرب من المسئولية، ورحم الله الدكتور محمد إقبال إذ قال: "المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي فهو يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يغلب". وهكذا كان المسلمون الأولون يعتقدون:. ففي معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم فقال له: من أنتم؟ قال: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا!!. ولا ينبغي أن يلجأ الإنسان إلى الاعتذار بالقدر إلا حينما يبذل وسعه، ويفرغ جهده وطاقته، وبعد ذلك يقول: هذا قضاء الله.
والقضاء الإلهي ينقسم إلى قسمين:
القضاء ينقسم إلى قسمين: قضـاء مـبرم مثل الموت فلا محيد عنه، والقضاء المعلق يرفع بالدعاء أو بالأسباب، فالرزق تسعى إليه وتلك أسباب.. والمرض تذهب عنده للطبيب فيصف لك الدواء لتأخذ فيحدث الشفاء، وإذا لم يتم الشفاء نتضرع إلى الله بالدعاء، فقد يتم الشفاء وإلا فيصبح الداء قضاء مبرما لحكمة وعلة يعلمها الله، وقطعا ستكون لصالحك في دينك ودنياك وآخرتك. هناك قضاء يستوجب منك الصبر أو الشكر (فقد مال أو سعة في الرزق أو ضيق في الرزق مثلا). قضاء يستلزم المعالجة بالأخذ بالأسباب أو بالدعاء أو بهما معا. قضاء أنت حر فيه وفي حدود حريتك أنت محاسب تصلي أولا تصلي تفعل الخير أو لا تفعل تنفق أو لا تنفق.
وهكذا قس على ذلك. فعلى العبد أن يرضى بما أقامه الله فيه من الأسباب والتجريد ما لم يكن في مباشرة أحدهما تضييع أمر من أوامر الله أو ارتكاب ما نهى عنه الله، وإلا وجب عليه المسارعة في الانتقال والطلب من الله بالدعاء لينقله مما يغضبه إلى ما يرضيه.
إن عقيدة القضاء والقدر إذا فهمت على وجهها الصحيح، وحسب فهم سلفنا الصالح للشرع الشريف ستوجه سلوك المسلم توجيها صحيحا لا عوج فيه، وسينعم باله معها ـ بإذن الله ـ وهو يواجه أحداث الحياة وتقلبات الزمان..والله - تعالى -أعلم.
=========================================
يوسف صديق