العلماء في أي مجتمع يُقدّر المعرفة ويهتم بالعلم هم قادة الرأي وأولو الأمر فيه، وهذا ما قررته الشريعة ورسخه الإسلام، وجعله قيمة فكرية واجتماعية في الأمة المسلمة، فهم المبلغون عن الله - تعالى -، وحماة الإسلام من صولة المبدلين والمحرفين، وقد رفعهم الله - تعالى -على بقية الناس لحملهم هذه الرسالة العظيمة، يقول - تعالى -: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " ويقول - أيضا -: " يا أيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم "، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الواضحة البينة.
وأي مجتمع يعتدي على علمائه بأي شكل من أشكال الاعتداء، فهو يدل على المخاطر والمخاوف المحدقة به من تسوّد الجهال، و ضعاف الرأي، وضياع العلوم والمعارف واحتقارها، وازدراء الفكر والثقافة والوعي، مما يهدد ذلك المجتمع في وجوده وبقائه واستمراره.
وإذا كان من الضروري المحافظة على "حقوق الإنسان" فإن حفظ حقوق العلماء يقف على أولوياتها لأنهم يجمعون بين وصف "الإنسان" كصفة مشتركة، و"العلم" كصفة مميزة لهم دون غيرهم.
ولا يخفى على المتابع للشأن الإعلامي المحلي، الجرأة المتنامية على أهل العلم والإفتاء والقضاء بصورة تدعو للاشمئزاز، وهذه الحملات الإعلامية المتكررة تدل على تزعم فئة فكرية لا يرضيها ما وصلنا إليه من العلم والمعرفة والثقافة (الإسلامية)، وتعمل جاهدة على أن يكون البديل هو ثقافة من نوع معين (الفن والغناء والرسم التشكيلي والثقافة الغربية).
وهذه الفئة أٌطلقت يدها بالهجوم على العلماء باسم الحرية، لكنها حرية لطرف إيديولوجي صراعي لا يعجبه الاستقرار والسلم الاجتماعي، وهذه الحالة الاجتماعية والفكرية الغريبة في بلادنا، هي التي صنعت الفوضى والإرباك والخوف الاجتماعي، من طرح أي مشروع تنموي في شكله الظاهر إذا وقف هؤلاء وراءه.
فالابتعاث و توسيع عمل المرأة، والتنمية الاقتصادية، وتطوير القضاء، وحرية الصحافة والإعلام، وتغيير المناهج، والانفتاح الثقافي ونحو ذلك لو طرحت في مجتمع آمن غير مختطف لاعتبرت مشاريع تنموية رائدة، لكنها إذا طرحت في مجتمع بطريقة موجهة، فإن من حق المجتمع رفضها، والاعتراض عليها وتعديل مسارها، وبعض الطيبين من المثقفين لا يدركون هذه المخاطر ويدعمون هذه المشاريع دون تحفظ، لأنهم ينظرون لها بمثالية وينسون أنها ستوجه بطريقة فكرية سيئة.
إن المطالبة بالحفاظ على " حقوق العلماء" لا تعني كهنوتاً أو طبقية، بقدر ما هي بيان لحق جزء سيادي في المجتمع، فالمجتمع متفاوت في قدراته وقواه المتحركة، ولا يمكن أن نقول بالمساواة المطلقة بين العالم والجاهل، والذكي والغبي، والقائد وغيره. ويتعاظم الخطب إذا تجرأ " البعض" على العلماء في قضية ضرورية يتفق عليها الكافة باعتبارها أصلاً راسخاً من أصول الدين، مع ضعف علمه وفقهه واغترابه عن ثقافة الأمة وهويتها.
إن ما يدور في الصحافة والإعلام الفضائي من انتهاكات متكررة لـ "حقوق العلماء" يدل على ضرورة قيام مؤسسة مستقلة للحماية من هذه الاعتداءات ومقاضاة من يقوم بها، ورعاية حقوق هؤلاء القادة. وإذا كانت " الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان " مشغولة بدور الحماية النسائية فإن " حقوق العلماء " يجب أن تكون من مهام السلطات العليا لأنها قضية سيادية في هذه البلاد، وأنا أقول هذا ليس استجداء لأحد، أو استعداء على آخر، لكنها الحقيقة التي من الواجب إظهارها وبيانها.
ومع كثرة الشعارات البراقة التي يرددها " البعض " حول احترام العلماء وتقديرهم، وكثرة استعمال الإعلام لعبارة " حقوق الإنسان " إلا أن الأمور لا تبشر بخير، وتدل على أن هذه الخطابات للاستهلاك ليس إلاّ.
و " حقوق العلماء " على الأمة كثيرة فالاحترام والتقدير والصدور عن رأيهم والانتفاع بعلومهم، والرجوع إليهم في الملمات وبناء المؤسسات المعنية بمساعدتهم في القيام بدورهم، من أبسط الحقوق التي لهم على الدولة والمجتمع.
وبكل أسف فإن هذه الجرأة على العلماء أصبحت ظاهرة، وبالذات على "علماء أهل السنة والجماعة"، وتصويرهم على أنهم شخصيات عادية أو أقل من عادية، هذا إن لم تكن الجرأة بالاحتقار والنقد البذي كالاتهام بالتكفير، ودعم التطرف والإرهاب والسطحية، والسذاجة في التفكير، وإرجاع الناس إلى القرون الوسطى (المظلمة أوروبياً) ونحو ذلك. ولعل هذه الحالة البائسة تدعونا إلى الاهتمام بـ " حقوق العلماء " في مناهج التعليم، والدروس العلمية، والخطب، والصحافة، والإعلام الفضائي، وتربية أبنائنا عليه، وإحياء فقه السلف الصالح في هذا الجانب من نسيجنا الاجتماعي الإسلامي.
====================
عبدالرحمن المسلمي