إالشيخ مبارك الزهراني
ن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
بعيداً عن متاع الدنيا الحاضرة، هناك في تلك الدار الآخرة نجد النعيم الذي نعرف به حقارة لذات الدنيا
و ملذاتها و ندرك به المسافة الهائلة بين نعيم تلك الدار ومتاع هذه الدار، ذلك الإدراك الذي يخفف من ولعنا بحطام هشيم ما نلبث أن نفارقه أو يفارقنا وما فتأنا نجد فيه ألم الفقد و مصاب الهرب، ومن قبل نصب الطلب، ثم مع ذلك لا نرى سواه نعيماً و لا نؤثر عليه سواه شغلاً، فجاء هذا الحديث عن أعلى نعيم الجنة و أعظمه ليرد إلينا الموازين، ويبين لنا أي السبيلين أحق بنا، و أجدر بنا و أي النعيمين خير وأعظم مردا.
أيها السلمون:
إنَّ الجنة لهي النعيم المقيم، وهي دار الحبور الدائم و السرور الباقي، ما أعطي المؤمن حين يكون من أهلها خيرا منها من قبل، إلا أنَّ نعيمها درجات و عطاؤها يتفاضل بعضه عن بعض، و ذروة عطائها و سُمَّي نعيمها رؤية الله - تعالى - فيها، قال الله - تعالى -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة)، و قال - تعالى -: (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)، و قد صحت بذلك الأخبار عن نبينا المختار - صلى الله عليه وسلم -، أخبر أَبِو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: ((يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ؟)) قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: ((فَاللَّهُ أَعْظَمُ)) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه]، و في خبر صهيب الرومي عن النبي في فضل الرؤية و نعيمها عقد النهاية و التمام قال الرسول: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ- تبارك وتعالى -: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟! فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ - عز وجل -))، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26] [رواه مسلم].
فوربي أنَّ هذا الأمر لهو أشرف ما يشغل المؤمن به فكره، و لأجل ما يسعى إليه العبد من وراء عمله، فهو أجل نعيم الجنة قدرًا، وأعلاه خطرًا، وأقره لعيون أهل الإيمان، فهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون و تسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم.
فإذا تجلّى الرب لعباده المؤمنين في الجنة نسوا كلّ ما هم فيه من ألوان النعيم من أجل ما ظفرت به أعينهم من اللذة الكبرى بالنظر إلى وجه الله - عز وجل -، فإذا ما احتجَب عنهم عادوا إلى ما كانوا فيه من ألوان السرور والنعيم، فلهم نعيمان في الجنة: نعيم عند رؤيته - سبحانه -، وهو أجلها وأشرفها، ونعيم عند احتجابه بما هم فيه من ظلال وفواكه وحور وولدان إلى آخره، فيا حبذا هذان النعيمان.
بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف بحديثه عن رؤية الله - تعالى - عند مجرد الخبر والوصف بل دل الأمة على أعظم موجبات الرؤية من الأعمال، فإن كان الاجتهادَ في الأعمال الصالحة من أسباب التنعم في الجنة، فإنَّ أعظم هذه الأعمال الاجتهاد والمحافظة على صلاة الفجر والعصر، وذلك بأدائها في وقتها بحضور قلب، فقد روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته))، ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا))، ثم قرأ قوله - تعالى -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)، تلك الصلاتان التي سحب عليها كثير من أهل الإسلام اليوم ذيول الغفلة والنسيان، و تراخت عزائمهم فيهما، و استرخوا إلى الفراش الوثير والمهاد الدافئ القرير من بعد غفلة ساهرة، و شهوة جائرة، وسمرة تائهة، فلم يكن من هممهم أداؤها و لا الجد في إقامتها، فأين هم من هذا النعيم، و قد علمنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، أن نسأل الله - تعالى - ذلك وأن نسأل ربنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي مجلز قال: صلى بنا عمارُ صلاةً فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أتمّ الركوع والسجود؟! قالوا: بلى، قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو به: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرةٍ ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين)) [وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما].
فالشوق إلى لقاء الله - عز وجل - هو لذة الروح في هذه الدنيا للمؤمن، وفي يوم القيامة يلتذ بالنظر إلى وجه الله الكريم، الذي هو حظ العين من دون الجوارح كلها، وليس في هذه الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذة تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله، كما أنه ليس في الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه - سبحانه -.
قال ابن القيم قدس الله روحه:
والله لولا رؤية الرحمن فِي الـ *** ـجنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه *** وخطـابه فِي جنـة الحيـوان
وأشد شيء في العذاب حجابه *** سبحانه عن ساكنِي النيران
وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي *** هم فيـه ممـا نالت العينـان
فإذا توارى عنهم عادوا إلَى *** لذاتهم مـن سـائر الألـوان
فلهم نعيم عند رؤيته سوى *** هـذا النعيـم فحبذا الأمران
أوَما سمعت سؤال أعرف خلقه *** بِجلالـه المبعـوث بالقـرآن
شوقًا إليـه ولذة النظر الذي *** بجلال وجه الرب ذي السلطان
الشوق لذة روحه في هذه الـ *** ـدنيـا ويوم قيـامة الأبدان
تلتذ بالنظر الذي فازت بـه *** دون الجوارح هـذه العينـان
والله ما في هذه الدنيا ألذّ من *** اشتيـاق العبـد للـرحمـن
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، و الشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله الله تعظيماً لشأنه، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه و على آله و أصحابه و سلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون:
لقد توعد ربنا على أعمال بحرمان النظر إلى وجهه - تعالى - و ذلك و ربي من أشد الألم و أقسى المصاب و العقاب الذي يذوقه أهل الجحيم حرمانهم من رؤية الله - تعالى -قال - تعالى -: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)، فتوعد الله الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً فقال: (إن أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
و توعد بذلك الشيخ الزان، والملك الكذاب، والعائل المستكبر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر))، فحذار أحبتي مما يوقد نار الشهوات من بعد همودها و يحرك في القلب حب المغريات من بعد سكونها، من النظر إلى القنوات الفضائية، و المسلاسلات و سماع الأغاني الماجنات.
كما توعد على ذلك رجل حلف على سلعة لقد أُعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم.
ورجل منع فضل ماء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري وغيره، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: رجل حلف على سلعة لقد أُعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك، فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)).
وفي رواية: ((ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى له، وإن لم يُعطه لم يَفِ له))
فأين التجار عن هذا العقاب، وهذا الوعيد، لا تنفق سلعتهم إلا بأيمان مغلظة كذابا.
و مما توعد عيه المنان والمنفق سلعته بالحلف، والمسبل إزاره فعن أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، فقالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: ((المنان، والمنفق سلعته بالحلف، والمسبل إزاره)) [رواه مسلم في صحيحه].
و كذا العاق: لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث فعن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ينظر الله - عز وجل - إليهم يوم القيامة، العاق: لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث)) [رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح].
اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم و الشوق إلى لقائك.
عباد الله صلوا و سلموا على نبيّه و آله و صحبه و من والاه، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، إذ قال ربّ العالمين: (إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما).
اللهم صلّ و سلّم و بارك على عبدك، و رسولك محمّد، و على آله و صحبه أجمعين.
* المروءة أين هي؟