الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،،
فإن الهدى التام لا يتحقق إلا باتباع الكتاب والسنة على وفق ما فهمه أئمة السنة من سلف هذه الأمة، بدءاً من الصحابة الذين عاينوا التنزيل، ثم بأتباعهم الذين تلقوا عنهم العلم والعمل، ثم بأتباع الأتباع الذين أخذوا العلم من الأتباع، وقرب عهدهم من عهد النبوة والخلافة الراشدة، مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، وكانت وفاة آخر تابعٍ للأتباع في السنة العشرين بعد المائتين من الهجرة النبوية، وهؤلاء هم السلف زمناً، ثم بدأت البدع تظهر شيئاً فشيئاً، وصارت السنة في من اتبع طريق السلف وهديهم.
والأدلة على تقرير التلازم بين الهداية واتباع نهج السلف كثيرة، ليس المجال لذكرها، وحسبنا منها قوله - تعالى -: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق) حيث ربط الله - عز وجل - الهداية بمماثلتهم في الإيمان، والمماثلة كما هو معلوم تكون من كل وجه، وليس من وجه دون وجه، وعلى هذا فقدر الهداية للتابع بعدهم بقدر المماثلة لهم في الإيمان.
إذا تبين هذا، فمن المهم أن يُعلم أن طريقة السلف وعقيدتهم وإيمانهم المأمور بمماثلته، ليست مسائل اعتقادية فقط، كما يظنه بعض الناس، بل عقيدة السلف تجمع ثلاثة أمور:
الأول: الجانب النظري وهو المسائل الاعتقادية المتعلقة بأركان الإيمان والتوحيد، كمسائل الأسماء والصفات، والإيمان والقدر واليوم الآخر ونحو ذلك.
الأمر الثاني: الجانب العملي وهو الطريقة العملية في فهم الدين، وتطبيقه على الواقع، والتعامل مع متغيرات الزمان والأحوال والأشخاص، كمسائل الدعوة إلى الله وبيان طرقها وتحديد الأولويات في ذلك، وطرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل مع المخالفات الشرعية في باب أصول الدين وما دونها، ومنهجية التعامل مع فئات الناس على اختلاف أحوالهم وأشخاصهم، من مسلمين سنيين ومبتدعين وكفار حربيين وغيرهم من الأصناف، ومن حاكم ومحكوم، وعالم وجاهل، ونحو ذلك، ويدخل في ذلك التعامل مع الواقع بحسب اختلاف أحواله، من حال قوة وضعف، وستة وبدعة، وطاعة ومعصية. ونحو هذه الأمور التي تتعلق بالجانب العملي للدين، وهذا ما يُصطلح عليه باسم " المنهج " أي منهج السلف. وهذا يُعرف بتتبع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحوال أصحابه فيما يتعلق بهذه الأمور، وكيف تعاملوا مع مختلف الأحوال والأشخاص والمتغيرات. وقد قال - سبحانه وتعالى -: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (طريقاً وسنة).
الأمر الثالث: جانب السلوك في العبادة والأخلاق، وهذا وإن كان قد يدخل في القسم الثاني، إلا أنه حَسُن إفراده لما له من التعلق بالجانب الشخصي للمتبع من حيث عبادته وسلوكه، أكثر منه بالجانب العملي العام.
وهذه الأمور الثلاثة مجتمعة تمثل معتقد السلف وطريق أهل السنة والجماعة، فكل من سار عليها فهو ممن ينتسب إلى السلف حقيقة مع قطع النظر عن المسميات، ومن لم يكن متبعاً للسلف فيها فهو على غير طريق السلف، وإن انتسب إليهم، فالعبرة في الأمور بحقائقها، لا بمسمياتها.
ولا شك أن الأمر الأول منها وهو الجانب النظري وهو ما يتعلق بالتوحيد والأسماء والصفات ونحو ذلك، لا يكاد يختلف عليه من ينتسب إلى طريقة السلف، إذ هو الأصل الذي يُبنى عليه، وإنما يقع التفريط والتساهل في الأمرين الأخيرين، ومن هنا يقع الخلل والاختلاف بين من ينتسبون إلى السلفية كما هو الحال اليوم، حيث نرى من بعض من ينتسب إلى السلفية - زعماً منه - من يسير على طريق أهل البدع والانحراف من غير أن يشعر بذلك، بل ربما نسب انحرافه وضلاله إلى السنة والسلفية، فها نحن نرى التكفير والتفجير في بلاد الإسلام يحصل باسم السنة والسلفية، وها نحن نرى المداهنة في الدين والمنهج والإغراق في التعاون مع أهل المناهج المنحرفة ممن لا يألون جهداً في حرب السلفية، وترك بيان انحرافهم ومخالفتهم، يحصل كله باسم المصلحة والسياسة والتعامل مع المستجدات، ومثله أيضاً ما هو حاصل من ازدراء العلماء ومحاولة إقصائهم عن قيادة الأمة، واللمز بالأمراء واستحداث وسائل مخالفة في إنكار المنكر والتعبير عن الرأي، كل ذلك باسم السلفية، ولأجل هذا الأمر اشتدت وطأة أعداء السنة من مختلف الأديان والفرق على أهل الحق من السلفيين عقيدة ومنهجاً وسلوكاً، بسبب جهل هؤلاء المنتسبين للسلفية بأمور المنهج والعمل.
وبسبب الغفلة أيضاً عن الجانب الأخير من معتقد السلف وهو جانب السلوك والأخلاق العلية التي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتميمها، يقع الخلل من بعض من ينتسبون إلى السلفية ممن لم يتمموا هذا الجانب وغفلوا عنه، فتجد عندهم من التشنيع والتبديع بغير حجة ولا برهان، ومن الغلظة والقسوة، والعنف، والعجلة والطيش قبل التحقق والتثبت، وتجد عندهم أيضاً من عدم الإنصاف مع المخالف وإن دقَّت مخالفته وإهدار فضله وسلفيته ما يُعلم يقيناً مخالفته لطريق سلف هذه الأمة ومنهج أهل السنة والجماعة القائم على مكارم الأخلاق، والرحمة بالخلق والسعي الحثيث لهدايتهم والإنصاف مع العدو والصديق والمسلم والكافر، فأهل السنة والجماعة هم أهل العدل والإنصاف والرحمة بالخلق، فهم أرحم الخلق بالخلق، فلا يبدعون من بدعهم، ولا يكفرون من كفرهم، بل يتعاملون مع الناس بالعدل، ويحكمون عليهم بما دل عليه الكتاب والسنة، إذ التبديع والتفسيق والتكفير ليس من حق الناس وإنما هو إلى الله - جل وعلا -، وليس تبعاً لأهواء الناس وأذواقهم وأحاسيسهم، ولا هو بالظنون والأوهام، بل باليقين والظن الراجح المبني على المقدمات والأحوال الظاهرة. وكل من خالف هذا الطريق وغفل عن هذا الجانب المهم وقع ولا بد في تناقضات فتجد أحدهم يزكي اليوم رجلاً بل ويصفه بأنه إمام أهل السنة وحامل لواء الجرح والتعديل، ثم سرعان ما يجعله إمام بدعة ورأس ضلالة، وهكذا الحال في كثير من الدعاة، كل هذا زعماً باسم السلفية وحماية المنهج، نعوذ بالله من الخذلان. وكان مما نتج عن إغفال جانب السلوك في معتقد أهل السنة تنفير الناس عن الدين بسبب الغلظة والشدة، والاشتغال بما لا ينفع وترك دعوة الناس، وترتب عليه شق الصف ووقوع الوحشة في القلوب وإيغال الصدور، والوقوع في أعراض العلماء وغير ذلك مما نعانيه منذ فترة.
وبناءاً على ما سبق يتبين لنا أهمية التركيز على المنهج والسلوك إضافةً إلى مسائل الاعتقاد، فعلى الدعاة والمربين والمصلحين من السلفيين أن يهتموا بهذين الجانبين، في الدروس والمحاضرات والخطب، وفي الكتابة والتأليف، حتى ينشأ الشباب على طريقة سلف هذه الأمة اعتقاداً ومنهجاً وسلوكاً، وحينها يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ويرفع الله البلاء عن الأمة وتقع الألفة والمودة بين السلفيين الذين يؤيد الله بهم دينه، ويُعلي كلمته، ويفتضح بذلك أهل البدع والزيغ والانحراف الذين ينسبون أنفسهم وأعمالهم إلى السلفية، فيعلم الناس عندها براءة أهل السنة والجماعة من طريقة المبتدعة الضلال، ومن طريقة أصحاب القلوب الغليظة القاسية المتهورة في التبديع والتفسيق.
وفقنا الله لكل خير وألهمنا رشدنا ووقانا شر أنفسنا.
فيصل الجاسم