إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهل يحرك التقوى في القلوب مثل الحديث عن ربنا المحبوب ذي الخير المرغوب والعذاب المرهوب؟!
لا، وربي ما مثل ذلك حديث يحرك القلوب للتقوى، ولا مثله حديث يحرك التقوى في القلوب فهلم نناجي ربنا بعظمته و ثنائه وجميل صفاته وكامل أفعاله.
لا إله إلا أنت تفعل ما تشاء، ولا إله إلا أنت تحكم ما تريد.
أنت يا ربنا - أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من حمد، وأحق من عبد، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، أنت الملك فلا شريك لك.
والفرد فلا ند لك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر وتعصى فتغفر.
أقرب شهيد وأدنى حفيظ، قائمٌ بالقسط - سبحانه -، أخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، والغيب عندك شهادة، وكل أحدٍ إليك ملهوف، لا يحيطون بك علماً، أشرقت لنور وجهك السماوات والأرض، وصلحت عليه جميع المخلوقات، لا تنام ولا ينبغي لك أن تنام، يرفع إليك عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابك النور، لو كشفته لأحرقت سبحات وجهك ما انتهى إليه بصرك من خلقك.
لك الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأفعالك في خلقك نافذة، كل يومٍ في شأن، تغني فقيراً وتجبر كسيراً، تعطي قوماً وتمنع آخرين، تذل وتعز، تحيي وتميت، ترفع وتخفض، لا يشغلك شأنٌ عن شأن، ولا تغلطك المسائل، ولا يبرمك إلحاح الملحين في دعائهم، ولا طول مسألة السائلين، تقاديرك وتدابيرك من حكمتك،
ما أعظم ثنائك على نفسك في ندائك لعبادك يوم قلت: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))، تفعل ما تشاء، لا تسأل عما تفعل، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: " لا يُسأل الله عما يقول ويأمر ويفعل".
لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِك فلا تسأل عما تحكم في عبادك من إعزازٍ وإذلال، وهدىً وإضلال، وإسعادٍ وإشقاء، وإفقار وإغناء، فأنت مالكهم وسيدهم وربهم، وليس فوقك أحد، تكرم أولياءك، وتذل أعداءك، ما حكمت من حكم أو أمضيت من فعل فهو بين فضل سابغ و عدل نافذ.
سبحانك يا ذا الرحمة السابقة لغضبك.
والواسعة لخلقك، لك الحكمة البالغة في أمرك.
أيُّ عظمة عظمتك يوم أَمسِكت السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وأيُّ رهبة لنقمتك وأنت ذو الأَخْذ الأَلِيم الشديد، أريتنا سطوتك في عاد ذات العماد، وفي ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد،
تحيط بمكر الماكرين ولا يحيطون بك شيئا، أَنَّى يَكُونُ لَك وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَك صَاحِبَةٌ، وَخَلَقَت كُلَّ شَيْءٍ، وَأنت بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، أنت اللَّهُ رَبُّنا لَا إِلَهَ إِلَّا أنت خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وأنت عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُك الأَبْصَارُ وأنت تدْرِكُ الأَبْصَارَ وأنت اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، أنت فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأنت تطْعِمُ وَلا تطْعَمُ، سبحانك أنت الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِك، واستأثرت بالغيب تعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا تعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ عندك مُبِينٍ، تتَوَفَّانا بِاللَّيْلِ وَتعْلَمُ مَا جَرَحْنا بِالنَّهَارِ، اللهم هذا ثناؤنا عليك مما عملتنا من كتابك العظيم، وسنة رسولك الكريم، لن نبلغ عشر معشار ما أنت أهله من الثناء والمجد، ولو طالت بنا الحياة حديثاً عنك إلى يوم لقياك ما كان إلا نزراً يسيراً في حقك و جلالك.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الثناء والحمد، والصلاة والسلام على نبيه محمد خير من صلى وتعبد، أما بعد:
عباد الله:
ألا ما أعظم هذا الحديث! وما أجل الخبر عن الله الخبير!
فهل بعد هذا الحديث لو استكن في القلوب يغفل العبد عن الله علاّم الغيوب! أم يستهين به في عصيانه؟! أم ينساه في خطراته؟ أم يذهل عنه في سكناته؟ أم يدبر حياته في سهو عنه؟ أم يصرف أمره في غيبة منه؟!
بعد هذا أنىّ يخاف العبد من سواه وأنّى يرجو غير نداه وأنّى قلب يتخذ من دونه و لياً، وأدنى مكروب يفر إلى سواه، ففروا من الله إلى الله.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله، (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
مبارك الزهراني