الحمد لله وبعد:
فتحنا عيوننا نحن أبناء هذا الجيل على الدنيا ونحن نشاهد زخم الصحوة الإسلامية قبيل أزمة الخليج وما بعدها.. دروس هنا.. ومحاضرات هناك.. وإقبال شبابي عجيب على تزكية الإيمان وبناء الشخصية الإسلامية.. ومحافل أدبية اشتعل فيها ما يسمى الأدب الإسلامي.. وتنامي تيار أسلمة العلوم.. ومؤسسات خيرية وغوثية.. والتفاف حول أهل العلم وتواصل معهم فيما يخص المنكرات والمخالفات الشرعية.. الفتى الصغير يفكر في معاناة أطفال المسلمين في أصقاع الأرض.. وشغف لا ينضب بمفهوم الدولة الإسلامية والتطبيق المتكامل لـ"تحكيم الشريعة" بكل ما يشمله من إصلاح عقدي وتشريعي وسياسي.. إنه بكل اختصار: مجتمع يلتهب بشئ اسمه "حمل هم الإسلام"..
ثم جاءت عاصفة سبتمبر، وتسلط الإمبراطورية الأمريكية في ملاحقة وتهديد الأنشطة الإسلامية وتوجيه الأنظمة العربية لتطويق منابع التدين، وثورة نظم الاتصالات الحديثة، وتمكن فريق ليبرالي/تكنوقراطي من صناعة الضباب حول رأس الهرم.. كل هذه المتغيرات الداخلية والخارجية في سنيات قلائل.. محنة من أمرّ المحن والصعوبات.. زلت فيها أقدام كثيرة.. وانسحبت أقدام أخرى.. مشاعل هدى صاروا سموم ضلالة.. استبدلوا الانتماءات الشرعية كأهل السنة والإسلاميين بالوطنية، وصاروا ينفخون في اتباعهم تعظيم الدنيا وتعليق القلوب بها، والتزهيد في علوم الوحي واستعظام حطام الكفار، وتهوين الأمر والنهي الإلهي بكثرة التذرع بالخلاف، وتذويب الحواجز العقدية وتهتيك وهجها ووضوحها: السني/المبتدع، الإسلامي/العلماني، المسلم/الكافر، المؤمن/المنافق، الخ وتوهين الذرائع بين الجنسين، وتقويض اليقين بمقصود الشريعة في التحوط بين الجنسين، وكثرة تقزيم المحتسبين ولمزهم وتصويرهم في صورة البسطاء والمتهورين.. الخ الخ
وبين كل هذا الركام من الانكسارات والانهيارات وجفاف الإيمان والجريان مع الأهواء.. بقي بين الظلام "دعاة" من الجيل السابق يتلامعون في ليالي الفتن، ثبتوا في هذه المحن، لم ترعبهم التضييقات، ولم تطمعهم المكتسبات الإعلامية والدبلوماسية الرخيصة، لم يرضوا أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، صحيح أن كثيراً منهم اضطر في الساعات الصعبة أن يكظموا صمتهم على تغيظ، لكن لهم الشرف أنهم لم يبدلوا تبديلا، دعاة من طلاب علم ومفكرين ومربين وأدباء إسلاميين.. لازالوا على العهد.. لم ينكسروا أمام الاستطالة اللغوية والإرهاب المصطلحي للخطاب الفكري الجديد، لا زالوا على أصول أهل السنة في العقيدة، وفي منهج الفتيا، وفي منهج الدعوة، وأسأل الله أن يثبتهم على ذلك حتى يجتمعوا بأئمة أهل السنة في الفردوس الأعلى من الجنة بإذن الله..
صحيح أننا يجب أن نوقر أهل العلم الكبار، لكن كلي أمل من إخواني طلبة العلم والدعاة من هذا الجيل أن لا ننسى واجب الوفاء لهؤلاء الدعاة الذين سبقونا بالإيمان، فلهم والله علينا حقوق كثيرة، وبمجرد أن يرى المرء نفسه يعرف لهؤلاء فضلهم فهو علامة خير، وبمجرد أن يمتلئ قلب الشاب زهواً وجحوداً لفضل هؤلاء الرواد فهذه أمارة خذلان..
الله الله يا إخواني بأن نقدر هؤلاء الدعاة وطلبة العلم الذين يكبروننا، والذين ثبتوا في الفتن السابقة، وأن نعرف لهم فضلهم ومنزلتهم، وأن نستشيرهم في دقائق الأمور الدعوية، فثباتهم في السنوات العجاف السابقة مؤشر عميق على توفيق الله لهم، وقرينة قوية على صدق نياتهم ونظافة مقاصدهم من أن ترديها أمراض حب الظهور، ونزوات الشهرة، وغريزة التصدر، ولذائذ الرياسة..
كلما رأيت طالب علم، أو داعية، أو مفكراً إسلامياً، أو أديباً إسلامياً، يكبرني بسنيات، وكان ممن ثبت في محنة سبتمبر الهوجاء؛ فإنني والله أشعر برغبة دفينة تتدفق في داخلي لأن أظهر له الوفاء بفضله وريادته، وحاجتنا لحكمته ومشورته ونصيحته.. ولولا أن يشعروا أنني أبالغ لقبلت رأس كل واحد من هؤلاء حين ألقاه، وأعرف أن هذا لا يمثل لهم شيئاً، لكنه إحساس داخلي بحبهم لا أعرف كيف أعبر عنه..
وحب أجيال المؤمنين اللاحقة لأجيال المؤمنين السابقة من أعظم خصال الإيمان التي نبه عليها كتاب الله كما قال - تعالى -(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]
كما أن "تفاوت" الدعاة بحسب "ريادتهم" الدعوية من أعظم المعايير التي نبه عليها كتاب الله كما قال - تعالى -(لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد: 10]
ابراهيم السكران