المساجد بيوت الله - تعالى - في أرضه جعلها خالصة له وحده، فقال - سبحانه –: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) [18-19سورة الجن]، وهي أحب الأماكن إلى الله - تعالى - وإلى رسوله وإلى المؤمنين الصالحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقهَا)). أخرجه مسلم (1473)، وابن خزيمة 1293، وابن حبان1600.
بل إن المسجد هو بيت كل مؤمن وتقي، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((الْمَسْجِد بَيتُ كُلّ تَقِيّ)) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (6 / 176)الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 341.
ومكانة المسجد في الإسلام تظهر بوضوح وجلاء في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما قال ابن كثير - رحمه الله –. [البداية والنهاية 3/209].
وكذلك عندما واصل - صلى الله عليه وسلم - سيره إلى قلب المدينة كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده - صلى الله عليه وسلم -.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه بأصحابه - رضي الله عنهم -، كما فعل في خيبر [وفاء الوفا بأخبار المصطفى للسمهودي 3/1028].
ولقد وعى هذا الأمر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاهتموا بذلك، واعتنى الخلفاء الراشدون بها فكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى ولاته أن يبنوا مسجداً جامعاً في مقر الإمارة، ويأمروا القبائل والقرى ببناء مساجد جماعة في أماكنهم.
عن عثمان بن عطاء قال لما فتح عمر بن الخطاب البلد كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة [كنز العمال 8/313-314].
ولقد اهتم ديننا بالمسجد أيما اهتمام، وجاءت بذلك الآيات والأحاديث المتواترة التي حثت على بناء المساجد والعناية بها، وبيان فضل الصلاة فيها، ومراعاة الآداب والأخلاق الخاصة بها.
ومن مظاهر اهتمام الإسلام بالمساجد:
1- الحث على بناء المساجد وعمارتها:
فقد حثنا الإسلام الحنيف على بناء المساجد، وجعل ذلك سبيلاً إلى الجنة وإلى الفوز بمرضاة الله - تعالى -، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ بَنَى ِللهِ مَسْجِدًا، مِنْ مَالِهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) [أخرجه ابن ماجة (737) الألباني: صحيح، ابن ماجة (736)].
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ بَنَى ِللهِ مَسْجِدًا، صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) [أخرجه التِّرْمِذِي (319) صحيح الترغيب والترهيب 1/66].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الْجَنَّةِ)) [أخرجه أحمد 1/241(2157)، صحيح الترغيب والترهيب 1/66].
قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: "يدل على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الأرض مسجداً من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء، والتنكير في مسجد للشيوع؛ فيدخل فيه الكبير والصغير". [نيل الأوطار 2/156].
وكما حثنا الإسلام على بناء المساجد فقد حثنا كذلك على عمارتها، وجعل ذلك علامة من علامات الإيمان، قال - تعالى -: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [18 سورة التوبة].
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ينادى يوم القيامة أين جيراني أين جيراني فتقول الملائكة ربنا من ينبغي له أن يجاورك فيقول أين عُمَّارُ المساجد)) [أخرجه الحارث في بغية الباحث 1/251، رقم 126، الألباني في " السلسلة الصحيحة " 6 / 512].
وليس عمارة المساجد ببنائها وتشيدها فقط، بل تكون العمارة بالصلاة فيها، وجعلها واحة للآمنين وملجأ للخائفين، وإصلاحاً للمتخاصمين، وتعليماً للمتعلمين.
لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة *** ورق يذريه الرياح
من خان حي على الصلاة *** يخون حي على الكفاح
2- الحث على الذهاب إلى المساجد والصلاة فيها:
ثواب الذهاب إلى المسجد للصلاة ثواب كبير وفضل عميم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ فأحسنَ الوُضوءَ، ثم خرج عامداً إلى الصلاة، فإنه في صلاة ما كان يَعْمِد إلى صلاة، وإنه يُكتَب له بإحدى خُطوتيه حسنة، ويُمْحَى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدُكم الإقامة فلا يَسْعَ، فإن أعظمَكم أجراً أبعدُكم داراً))، قالوا: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخُطَا". [الموطأ 1/33 صحيح الترغيب والترهيب 1/73].
عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلا كَانَ زَائِرَ اللَّهِ - عز وجل -، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ)) [رواه الطبراني (3 / 73 / 1)الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 157].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا وَرَاحَ)) [أخرجه أحمد 2/508(10616) والبُخاري (662) و((مسلم)) 1469].
وعَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ، إِلَى الْمَسَاجِدِ، بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَة)) [أخرجه أبو داود (561)، والتِّرْمِذِيّ" 223].
عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنْتُ ضَرِيرًا، شَاسِعَ الدَّارِ، وَلِي قَائِدٌ لاَ يُلاَئِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: ((أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ))؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً)). [أخرجه أحمد 3/423(15571) و"أبو داود"552 و"ابن ماجة"792 و"ابن خزيمة"1480 الألباني، صحيح أبي داود (561 و 562].
بل إن انتظار الصلاة يعد جهاداً في سبيل الله - تعالى -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)) [أخرجه أحمد 2/235(7208) و((مسلم)) 1/151(508)].
الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة له أجر الصلاة، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((الرَّجُلُ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ))؟ قَالَ: انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً لِصَلاَةِ الْعَتَمَةِ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْنَا، حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، أَوْ بَلَغَ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ قَالَ: ((اجْلِسُوا))، فَخَطَبَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا، وَأَنْتُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ)) [أخرجه أحمد 3/347(14802) الألباني في " السلسلة الصحيحة " 5 / 483].
وحينما تنقطع صلة الإنسان بهذه الحياة، ويوضع في قبره فإنه يتمنى لو عاد إلى الدنيا مرة أخرى لا ليجمع الأموال أو يحصل المناصب، بل ليصلى ركعتين فقط، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: ((مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ))؟ "فَقَالُوا: فُلانٌ، فَقَالَ: ((رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ)) [أخرجه الطبرانى في الأوسط (1/282، رقم 920)، قال الهيثمى (2/249): رجاله ثقات الألباني: صحيح الترغيب والترهيب 1/93].
قال الشاعر:
خسر الذي ترك الصلاة وخابا *** وأبى معاداً صالحاً ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه *** أضحى بربك كافراً مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل غطى *** على وجه الصواب حجابا
بل إن المكان الذي كان يسجد فيه المسلم لربه - تعالى - ليبكي عليه بعد موته، فالمسجد يبكي على من تعلق قلبه به، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) [أخرجه أحمد 2/439(9663)، و"البُخاري" 1/168(660) و"مسلم" 3/93].
خرج عمر يوماً إلى حائط له فرجع وقد صلى الناس العصر فقال عمر: "إنا لله وإنا إليه راجعون فاتتني صلاة العصر في الجماعة أشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة ليكون كفارة لما صنع عمر" [مسند الفاروق، لابن كثير 1/140].
وذُكر عن التابعي الجليل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - أنه ما فاتته تكبيرة الإحرام نحو أربعين عاماً، لأنه ما كان يصلي في المسجد النبوي إلا في الصف الأول، وقال وكيع - رحمه الله تعالى -: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفنا إليه قريباً من سبعين فما رأيته يقضي ركعة. [صفة الصفوة لابن الجوزي (2/69)].
وكان الربيع بن خثيم قد سقط شقه في الفالج فكان يخرج إلى الصلاة يتوكأ على رجلين فيقال له: يا أبا محمد قد رخص لك أن تصلي في بيتك أنت معذور، فيقول: هو كما تقولون، ولكن أسمع المؤذن يقول حي على الصلاة حي على الفلاح، فمن استطاع أن يجيبه ولو زحفاً أو حبواً فليفعل.
وقال حاتم الأصم: فاتتني مرة صلاة الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا. [الذهبي: الكبائر 10].
3- الحث على تنظيف المساجد والعناية بها:
حث الإسلام على نظافة المساجد وحسن العناية بها، وجعل لذلك أجر عظيم وثواب كبير، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ، أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا)) [أخرجه أبو داود (461) ، والتِّرْمِذِيّ" 2916، و"ابن خزيمة" 1297].
وعن أبي سعيد، قال: كانت سوداء تقم المسجد، فتوفيت ليلاً، فلما أصبح رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أخبر بموتها، فقال: ((ألا آذنتموني بها))؟ فخرج بأصحابه، فوقف على قبرها، فكبر عليها والناس من خلفه، ودعا لها، ثم انصرف. [أخرجه ابن ماجة (1533)، صحيح الترغيب والترهيب 1/67].
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا" [رواه أحمد في مسنده (19671) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (278)].
ولقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جدار المسجد نخامة، فتناول حصاة فحكه، وعدها خطيئة وقال: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) [البخاري مع الفتح (برقم 409)].
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ)). [أخرجه أحمد 5/180(21900) و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 230 و"مسلم" 2/77 (1170)].
وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة، قال: فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها. [الألباني: الثمر المستطاب 720].
4- الحث احترام المساجد ومعرفة حرماتها:
المساجد أماكن مقدسة لها خصوصيتها ولها حرمتها، فهو بيوت للذكر والصلاة، قال - تعالى -: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ). [النور: 36].
لذا يجب تنزيه المسجد عن كل ما من شأنه أن يشينه أو ينتهك حرمته، فيمنع البيع والشراء في المسجد، وكذا نشدان الضالة، أخرج الترمذي عن أبي هريرة: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك)) [الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 573 في صحيح الجامع].
كما يمنع أذى الناس والملائكة بالروائح الكريهة، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الثُّومِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَيْئًا، فَلاَ يَقْرَبَنَّ، أَوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ، مَعَنَا)).
- وفي رواية: قِيلَ لأَنَسٍ: مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الثُّومِ، فَقَالَ: ((مَنْ أَكَلَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا)) [أخرجه أحمد 3/186(12968) و"البُخَاريّ" 1/217 (856(، و"مسلم" 2/79(1187)].
وعَنْ جَابِرٍ، - رضي الله عنه -، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ)). [أخرجه "أحمد" 3/374(15078) و"مسلم" 2/79(1189)].
كما يجب أن تنزه المساجد عن الصراعات والمشاحنات والمنافسات، فهي بيوت الله - تعالى - وليس لأحد سلطان عليها، يروي أن الرشيد حلف بالطلاق ثلاثاً أن باتت زبدية في ملكه، وندم وتحير فقيل: هنا فتى من أصحاب أبي حنيفة يرجى منه المخرج فدعاه، فعرض عليه وقال: استعمل حق العلم، قال: كيف أنت على السرير، وأنا على الأرض فوضع له كرسي، فجلس عليه، ثم قال: تبيت الليلة في المسجد ولا يد لأحد على المسجد، قال - تعالى -: (وأن المساجد لله)، فولاه الرشيد قضاء القضاة. [ابن أبي الوفاء: الجواهر المضية في طبقات الحنفية ص 2/521].
وأخيراً فإن علينا أن نعود بالمسجد إلى دوره ومكانته، فهو البوتقة التي تنصهر فيها قلوب المؤمنين وأرواحهم، وتتلاشي وتنمحي المسافات والأبعاد بينهم، فتتحقق معاني المواساة والعدالة والأخوة والتآلف، ويتدربون على النظام واحترام الوقت والتواضع واللين، وهذا ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته الكرام رضوان الله عليهم، حينما كان يصفهم للصلاة ويقول لهم: ((أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا في أيدي إِخْوَانِكُمْ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ- تبارك وتعالى -، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ)). [أخرجه أحمد 2/97(5724) و"أبو داود" 666 و"النَّسائي" 2/93، وفي "الكبرى" 895 و"ابن خزيمة" 1549].
وهذه التوجيهات التربوية لا تقف حدودها عند الصلاة فقط، بل تتجاوزها إلى جميع مناحي الحياة من عبادات ومعاملات وأخلاق، وبوم أن يعود إلى المسجد دوره في التربية والتوجيه سوف ينصلح حال العباد والبلاد.
بدر عبدالحميد هميسه