كلنا يريد أن يخرج بمظهر الحكيم، أو الثري، أو البريء أو خفيف الظل؛ كي يسوّق ذاته كإنسان محبوب ومرغوب فيه، وفي مرحلة أخرى القوي الأمين كي يسرق ما في جيوب الناس.
وهكذا الإنسان اجتماعي كما يخبر شيخ الاجتماع، ولا بد له من خلال هذا الاجتماع مع الآخرين أن يلبس لكل حال لبوس، ولكل شريحة وشاح.
يقسو الإنسان على نفسه بالابتعاد بها عن حقيقتها إلى زيفها، ويتعب الآخرين معه؛ لأنه لم يعرف نفسه، ولا يريد أن يعرفها كما هي، جميل أن تحاول أن تعيش نفسك وذاتك في كلماتك وحركات يديك وفي مشيتك.
جميل أن تكون طبيعياً، حاول ذلك، فقد تجد نفسك، ومن وجد نفسه فهو السعيد.
قد نخدع الناس زمناً أو بعض الناس، فهناك من يثقبنا بعينيه البصيرتين قائلاً بتحريك رأسه كالموافق (أننا نزعم ما لا نعتقد ونقول ما لا نفعل)، نعم قد نراوغ، ونمثل، وتصفق لنا شريحة من الناس، وفي نهاية المطاف نصطدم بحقيقتنا المنهكة، وبروحنا المعذبة؛ لنعود مرةً أخرى للمجتمع بوجه آخر بعدما نزعنا القناع، قائلين: نحن بسطاء وجدّ عاديون، ولنا نزعاتنا ورغائبنا وذاتيتنا.. لسنا كونفوشيوس ولا غيتس ولا...... ولا........
القناع جذاب وجميل، ولكنه يحمل أسباب سقوطه؛ لأنه ببساطة قناع، ولأنه يكتم الأنفاس.
ساهمت الدورات التدريبية في توزيع الأقنعة الملونة، فلن تعدم أن ترى أحد هؤلاء المتدربين يبتسم كثيراً كالأبله، أو يحاول أن يمشي باتزان سينمائي وثقة متكلفة، فتضيع مشيته كما ضاعت مشية الغراب، أو يحرك يديه كالبهلوان كي يقنعك بفكرة تافهة كمهارة اتصال أو قدرة على الإقناع.
أف لتلك الأفواج الطيبة التي تخرج من قاعات التدريب، وهي تجزم بقدرتها على الادخار والإقناع والاتصال الجذاب مع الآخرين، بعد دورة تدريبية لا تزيد عن ثلاث ساعات بمدرب متواضع فكرياً، وآليات عمياء مكررة كورش العمل والعصف الذهني.
أكره ورش العمل والعصف الذهني
أكره الأقنعة
يتحدثون كثيراً عن النجاح وصناعته!
عن أي نجاح يتحدث هؤلاء؟
قل لي أنت أيها المدرب: نجحت في ماذا؟
أفي جمع عدد من شهادات الدورات السحرية، والتي تسحر بها الآخرين الآن كما هي هواية جمع الطوابع!
إنه بيع الكلام، وتعداد الأشياء التي نحبها ونتمنى أن نكونها، لا بأس بقدر من هذه الدورات مع قلة من المدربين الممتازين، ولا يعني ذلك أنها حلاّلة المشاكل وعفريت المصباح، وبطبيعة الحال لا يتصل الكلام بالدورات الحديثة المتخصصة المقدمة من وإلى شركات تعرف مدخلاتها ومخرجاتها للتدرب على نظام أو برنامج أو تقانة معينة، ولا يتصل الكلام أيضاً بالسعى للتخلق بالفضائل؛ فهذا مما لا يختلف حوله اثنان، وإنما يتصل الكلام بـ الأقنعة وما دار في فلكها.
أيها المقنعون، أقنعوا بشخصياتكم؛ فأنتم خلق آخر لا يشابهه خلق، ولديكم الكثير من المواهب والمميزات العفوية والقابلة للصقل، ولكن هيهات، لقد عطل القناع أكثر تلك المواهب تألّقاً، فبوابة التواصل مع الآخرين هي التعامل، فإذا كنتم تعاملون الناس بوجه غير الوجه الحقيقي، فأنى لتك الخصوصية أن تظهر أو يتعرفها أحد حتى أنتم؟!
تركي رشود