العدوان الصهيوني على غزة، والذي استمر طيلة 22 يومًا، تضمن كل أنواع الجرائم في القانون الدولي والتي صنفتها المحكمة الجنائية الدولية إلى: جرائم إبادة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان.
فتحت جرائم الإبادة، تعتبر التصريحات الصريحة والضمنية، الصادرة من المسئولين الإسرائيليين، المتعلقة بنيّة "إسرائيل" في التخلص من "حماس" كهدف رئيسي للحرب على غزة، شرحاً عملياً لتعريف "جريمة الإبادة"، التي تعني "ارتكاب أي فعل بنيّة إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكاً كلياً أو جزئياً". فمعاهدة منع جريمة إبادة الجنس عام 1948، تُجَرِّم مجرد وجود "النيّة" بقصد القتل، حتى لو لم يتحقق القتل ذاته.
أما جرائم الحرب فهي تتركز في استهداف المدنيين بإلقاء القنابل بشكل عشوائي في أنحاء غزة، وتعمّد استهدافهم في الملاجئ والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والمنشآت المدنية وتدمير البنية التحتية، واستخدام الأسلحة المحرمة.
بينما تتركز الجرائم ضد الإنسانية في تجويع الشعب الفلسطيني في غزة، ومنع الدواء والغذاء من الوصول إلى الشعب الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، أثناء الحرب وقبلها، وتشريده خلال الحرب.
وتنطبق جريمة العدوان على بدء الحرب على غزة، وهي من النوع الرابع من جرائم القانون الدولي، إذ لا يمكن قبول تبرير إسرائيل أن عدوانها على غزة نوع من أنواع "الدفاع عن النفس" بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، كما فصلت ذلك في مقالات سابقة.
الجرائم الإسرائيلية مكتملة إذاً، وأركان الجريمة مسجلة بالصوت والصورة، وقد أكدت هذا منظمات حقوقية غربية وعربية يصعب حصرها، ولكن المؤسف هو أن الدول العربية لم تتحرك بعد، تجاه بدء رفع إجراءات دعوى ضد المسئولين الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية، ولا يبدو أن لها نيّة في ذلك! بل إن الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية الرافض للاستجابة لدعوة الحقوقيين الدوليين، لمساندتهم في رفع إجراءات دعوى ضد المسئولين الإسرائيليين، وعدم تحرك ثلاث دول عربية أعضاء في محكمة الجنايات الدولية بأي خطوات نحو هذا، يثير أكثر من سؤال في ذهن رجل الشارع العربي، حول المواقف غير المعلنة لهذه الحكومات من العدوان الإسرائيلي، وهو أمر لا يزيد الشعوب العربية إلا تشبثاً بدعم المقاومة الفلسطينية بعد أن تعاونت الحكومات الغربية وسكتت الحكومات العربية عن اغتيال القانون الدولي.
هناك تباين واضح بين الشعوب العربية وحكوماتها، ففي السابق كانت الشعوب والحكومات العربية يداً واحدة مع المقاومة الفلسطينية الممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت الدول العربية تطالب بطرد إسرائيل من منظمة الأمم المتحدة، كما كانت اللاءات العربية كلها ضد الصلح مع إسرائيل والتفاوض معها والاعتراف بها، أما اليوم، فقد تحوّل المشهد العربي إلى صورة مختلفة تماماً، فالتنديد العربي أصبح من الشعوب العربية ضد بعض حكوماتها، والمقاومة الفلسطينية لم يعد مرحباً بها كما كانت من قبل، بل إن اللاءات العربية تحوّلت ضدها، وطلب محاكمة إسرائيل أو تجميد عضويتها في الأمم المتحدة أصبح يسمع من خارج العالم العربي، وليس من داخله.
ثمة بروز لدور منظمات المقاومة غير الحكومية، وانحسار دور الحكومات الرسمي. فمنذ أحداث أيلول / سبتمبر 2001، لا يجادل الكثير أن منظمات المقاومة غير المدعومة حكومياً، من أمثال "القاعدة" و"طالبان" و"المحاكم الإسلامية" و"حزب الله" و"حماس"، صارت هي المحرك الرئيسي للأحداث في السياسات الدولية المعاصرة، في حين انحسر دور الحكومات الرسمية إلى ردود أفعال لما تقوم به تلك الحركات.
إننا نسأل: ترى لو كان في مقدرة "حماس" أن تقصف المدنيين في بيوتهم ودور العبادة ووسائل الإعلام الإسرائيلية، والمدارس والجامعات، والمستشفيات وسيارات الإسعاف، وبقية الأماكن المحمية بموجب القانون الدولي، ماذا كانت ستصنع إسرائيل؟ بل ماذا كان سيصنع الغرب بـ "حماس"؟
في الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، غالبية القتلى والجرحى هم من النساء والأطفال والمدنيين غير المحاربين، الذين أصيبوا أثناء قصف الملاجئ والمدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات، وفي ذلك انتهاك صارخ لاتفاق جنيف الرابع لعام 1949، الخاص بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. ومع ذلك يتبجّح المسئولون الإسرائيليون بعدم تحمّل المسؤولية القانونية، لأن مقاتلي "حماس" يختفون في البيوت مع المدنيين وفي المساجد والمستشفيات بحسب زعمهم. ولا يخفى على أي قانوني دولي أن هذه المزاعم هي ذاتها التي استخدمها النازيون الألمان في محاكمات نورمبرغ، وقد رفضت المحكمة تلك الحجج، ودانت "مجرمي الحرب" الألمان بارتكاب "جرائم حرب".
إسرائيل كذلك، استهدفت قناة "الأقصى" الفضائية وصحيفة "الرسالة"، وقتلت وأصابت صحافيين، وفي ذلك خرق صريح للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقات جنيف لعام 1949، الخاص بحماية الصحافيين، إلا أن الحجج الإسرائيلية هي ذاتها الحجج الأميركية، التي قدمها وزير الدفاع الأمريكي السابق.
القوات الإسرائيلية قامت أيضاً بجمع عدد من الأسرى واقتادتهم إلى بيت خالٍ ثم قصفتهم بالطائرات، كما نقلت ذلك وسائل الإعلام العالمية، وفي ذلك انتهاك جسيم لاتفاق جنيف الثالث لعام 1949، المتعلق بحماية الأسرى، وهي من أكبر جرائم القانون الدولي الإنساني.
جرائم الحرب الإسرائيلية شملت أيضاً استخدام أسلحة محرمة دولياً، كالفوسفور الأبيض الذي سبق أن اعترفت إسرائيل باستخدامه في حرب تموز (يوليو) 2006 على لبنان، وإن لم تقر باستخدامه في غزة بعد. يؤيد ذلك عدد من الأطباء الذين تولوا علاج حالات المصابين الذين أصيبوا بشظايا حارقة، لا يمكن أن تكون إلا نتيجة أسلحة محرمة كالفوسفور الأبيض، وهو ما أكدته صحيفة "التايمز" البريطانية أيضاً قبل أيام. وإسرائيل وإن أنكرت جرائمها في غزة، فإنها لم تعترف بأي من مجازرها التي يصعب حصرها في مقال كهذا.
كل ما سبق يعد "جرائم حرب" توجب المحاكمة بموجب المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك لم يثر أي من ذلك كوامن الفضول في عالم الغرب "الحضاري"، الذي سَنَّ هذه القوانين الدولية. وغني عن القول لو ارتكبت هذه الانتهاكات دولة عربية أو مسلمة كيف سيكون رد الفعل الغربي؟
ولعل السؤال الذي يطرح في الشارع العربي اليوم هو ما الذي يمكن عمله قانونياً لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة؟ والإجابة تكمن في طريقين: الأول هو البدء في رفع إجراءات دعوى ضد المسئولين الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب "جرائم حرب".
هناك ثلاث دول عربية يمكن لأي منها بدء رفع إجراءات دعوى ضد قادة إسرائيل بصفتهم "مجرمي حرب" بموجب المادة 14 (1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وإذا تخاذلت هذه الدول، فإن العيب ليس في القانون الدولي، وإنما هو في النظام السياسي العربي. والطريق الآخر هو بدء رفع دعاوى في أية دولة موقّعة على اتفاقات جنيف الأربعة لعام 1949 ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، بصفتهم انتهكوا هذه الاتفاقات الدولية، تماشياً مع المادة 146 من اتفاق جنيف الرابع لعام 1949، والمتعلق بحماية المدنيين وقت النزاعات المسلحة.
على وزارات العدل في جميع الدول العربية قبول رفع دعاوى ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، فمثل هذا الإجراء يخيف الصهاينة. كما أن على المؤسسات الحقوقية في كل دولة غربية أن تقوم ببدء رفع إجراءات دعاوى ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين داخل محاكم كل دولة غربية، وقد بدأت بعض المنظمات الحقوقية في تلك الخطوة فعلياً.
الفلسفة التي قام عليها القانون الدولي، هي أنه وضع لحماية الرجل الغربي الأبيض فحسب. ذلك أن الانطباع السائد في عالم الغرب عموماً هو أن قتيلاً غير غربي ليس سوى مجرد قتيل. وهو ما أكده أحد المحاربين الأمريكيين الذي شارك في حرب العراق في اعترافات نشرتها مجلة "ذي نيشن" الأمريكية في عدد شهر تموز (يوليو) 2007، حين قال، "كنا نظن أن هؤلاء أصحاب البشرة الداكنة الذين لا يتحدثون الإنكليزية ليسوا بشراً، ولنا أن نفعل بهم ما نشاء".
جرائم الصهاينة في غزة تحت طائلة القانون الدولي الإنساني
القانون الدولي لا يقر إغلاق معبر رفح
جرائم الصهاينة في غزة بين الشريعة والقانون الدولي