تذرع الصهاينة أثناء عملياتهم العدوانية الأخيرة على قطاع غزة، بل عبر كل مجازرهم واعتداءاتهم على العرب والفلسطينيين، بأنه دفاع شرعي عن النفس، وأن الصواريخ التي تقصف بها من قطاع غزة عدوان ولا تترك لها مجالا إلا الدفاع عن النفس. وقد وقع كثيرون في العالم في حبائل هذه المقولة وصدقوها بل دافعوا عنها، إما لأنهم يؤيدون إسرائيل في كل الحالات ولا يريدون إلا أن يصدقوا، وإما لأنهم تم تضليلهم عبر إعلام كاذب مضلل.
الدفاع الشرعي عن النفس الذي قررته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا ينطبق بأي شكل من الأشكال على الحالة الإسرائيلية، فقطاع غزة ليس دولة والمادة 51 تشترط أن يكون العدوان صادر من دولة حتى يكون هناك دفاع شرعي عن النفس، ولكن قطاع غزة إقليم غير مستقل يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي رغم إعادة الانتشار للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة عام 2005, حيث خرجت القوات الإسرائيلية من القطاع ورابطت حواليه. ومنذ ذلك الوقت لا يخرج أحد ولا يدخل أحد إلا بموافقة القوات الإسرائيلية بشكل من الأشكال. بل إن بحر وأرض وسماء قطاع غزة مسيطر عليه بالكامل من السلطات الإسرائيلية المحتلة.
وبذا يعتبر معيار "السيطرة الفعالة" متوافرًا لتقرير وجود الاحتلال من عدمه بحسب معايير محكمة نورمبورغ لعام 1946. وتحت السيطرة الفعالة تتحكم إسرائيل في كل شيء يدخل غزة أو يخرج منها، لدرجة أنه لا يدخل إلى سوق غزة إلا الإنتاج الإسرائيلي من الدواء والإسمنت والحليب والكهرباء والنفط والملابس والأجهزة وكل شيء. وهذه السيطرة الكاملة على القطاع استغلتها إسرائيل لإحكام الحصار على أهالي غزة.
إن إسرائيل محتلة لقطاع غزة فكيف تكون في حالة دفاع شرعي وهي محتلة في ذات الوقت؟ أليست إسرائيل دولة محتلة أولا وأخيرا وبالتحديد لفلسطين ولقطاع غزة؟ فكيف يمكن لمحتل غاصب أن يدعي الدفاع الشرعي عن النفس وهو معتد؟ كيف لمحتل إسرائيلي يمنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير الزعم بأنه في حالة دفاع شرعي عن النفس؟
المنطق والعقل والقانون يؤكدون أنه طالما تحتل إسرائيل أراضي فلسطينية فإن من حق الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال مقاومة المحتل. وتستمد المقاومة مشروعيتها من قرارات عديدة أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة, ولذلك فإن شروط حق الدفاع الشرعي عن النفس غير متوافرة لدى إسرائيل, بل العكس هو الصحيح, فالفلسطينيون هم الذين في حالة دفاع شرعي عن النفس لأن إسرائيل هي الدولة المعتدية باحتلالها بالقوة المسلحة أراضي فلسطينية واغتصاب أجزاء منها بإقامة مستوطنات يهودية عليها, كما أنها ترفض تطبيق قرارات هيئة الأمم المتحدة التي تلزمها بالانسحاب من تلك الأراضي. والاحتلال العسكري لأراضي الغير يمثل عدوانا مستمرا ويعتبر بموجب قواعد القانون الدولي جريمة ضد السلام. فالأسباب الجوهرية للصراع تكمن في الاحتلال الإسرائيلي وما يترتب عليه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
كما أن استمرار الاحتلال العسكري الإسرائيلي أدى إلى تعطيل ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني, الأمر الذي جعل هذا الشعب الفلسطيني في حالة دفاع شرعي عن النفس في مواجهة إسرائيل, وتبعا لذلك فإنه طبقا لقواعد القانون الدولي يحق للشعب الفلسطيني استخدام جميع الوسائل المتاحة لديه بما في ذلك القوة المسلحة للتحرر من هذا الاحتلال واسترداد حقوقه المغتصبة.
وكان من ذرائع لإسرائيل لعدوانها الأخير على غزة, الادعاء بأن حركة حماس رفضت تجديد اتفاق التهدئة وأنها بذلك أعطت إسرائيل الذريعة المناسبة لشن هذا الهجوم، غير صحيح أن حماس رفضت تمديد اتفاق التهدئة رفضا مطلقا, فهي وافقت على تمديد هذا الاتفاق شريطة رفع الحصار الشامل عن القطاع.
إن فرض الحصار في حد ذاته يعد عملا من أعمال العدوان طبقا لتعريف العدوان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها المتخذ بتاريخ 14/12/1974, ولم يكن ممكنا القبول بهدنة وتهدئة وسكان غزة رازحون تحت عدوان جسيم ناشئ عن هذا الحصار الخانق.
إن الواقع يؤكد أن إسرائيل أنهت عمليات اتفاق التهدئة قبل انتهائها رسميا, حيث قامت بخرقها مرات عديدة, خرقتها في 4 تشرين الثاني /نوفمبر بسلسلة من الغارات المسلحة على غزة تسببت في مقتل عشرات الفلسطينيين.
كما أن إسرائيل عقدت العزم على شن هجومها سواء وافقت حماس على تمديد اتفاق الهدنة أو لم توافق لأنها قررت, كما أعلن قادتها, تغيير الوضع السياسي والأمني القائم في قطاع غزة, أي إنهاء سيطرة حماس على هذا القطاع.
إن الشخص يكون في حالة دفاع شرعي عن النفس عندما يتعرض لخطر فعلي يهدد حياته أو عرضه أو ماله، فيضطر إلى اللجوء إلى القوة لدفع هذا الخطر، وتعترف الأنظمة القانونية الداخلية بحق الإنسان في استخدام القوة في حالة الدفاع عن النفس، وتضع لاستخدام هذا الحق الضوابط المناسبة، كذلك يعترف القانون الدولي العام بحق الدولة في اللجوء إلى القوة في الدفاع عن نفسها بضوابط محددة، وقد أقر ميثاق الأمم المتحدة صراحة هذا الحق، إذ نصت المادة 51 منه على ما يلي: (ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة" وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالا لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس ـ بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمدة من أحكام الميثاق ـ من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادتهما إلى نصابهما).
لقد طوّر الكيان الصهيوني نظرية الدفاع الشرعي وتمسَّك بما يُسمَّى الدفاع الشرعي الوقائي واجتهد الفقه الصهيوني في تأصيل هذه النظرية حتى يغطي التصرفاتِ العدوانية الصهيونية، ولكن الفقه الدولي يرفض هذه النظرية ويصرُّ على أن الدفاع الشرعي المعترف به هو ما تضمنته المادة 51 من ميثاقِ الأمم المتحدة، وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في قضية الجدار العازل عام 2004م عندما رفضت نظرية الدفاع الشرعي الصهيونية وألزمت الكيان الصهيوني بأحكام الميثاق.
وحتى يمكن أن نقيس سلوك الكيان الصهيوني على قواعدِ الدفاع الشرعي المقبولة في القانون الدولي المعاصر نشير إلى أن هناك ضوابطَ ثلاثة تحكم ممارسة حق الدفاع الشرعي وهي:
- الضابط الأول: أن يكون هناك هجوم مسلح من جانب دولة، وأن يكون الهجوم فعليًّا أو على وشكِ الوقوع، ومما يُذكَر أن محكمةَ العدلِ الدولية شدَّدت في قضية الجدار العازل على أن يكون الهجوم صادرًا من دولة وليس من منظمة أو جماعة، وهو ما ينسف أيضًا النظرية الصهيونية والأمريكية التي تؤصِّل لمكافحة الإرهابِ الدولي.
- الضابط الثاني: هو أن يكون الهجومَ المسلَّح الموجَّه من دولةٍ إلى دولةٍ أخرى مفاجئًا وغيرَ متوقع ولا يترك فرصةً للتدبر، ثم يجب أن يكون الرد بالقدر اللازم لرد الهجوم أو صده، أي التأكيد على شرط التناسب بين الهجوم وبين الرد عليه.
- الضابط الثالث: أن يتم وقف الحق في الدفاع الشرعي بمجرد تولي مجلس الأمن ومعالجته، أو في أبسط التفسيرات إبلاغه بالهجوم.