يشعر الإنسان بلذة الإسلام فور دخوله فيه، بشاشة تعتريه، من أجلها يحسب أنه أسعد الناس، وطمأنينة تسبق إليه تهون عليه حطام الدنيا، وهمة ترفعه ليناطح قمم الجمال، ويسابق بها السحاب.
يذيقه الله برد الجنة في الدنيا، كي يزداد إلى جنة الآخرة شوقاً، وفيها رغبةً، ولذلك كان من صفات أصحاب الرسل أن الواحد منهم لا يرتد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه، ويكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
وهذا أحد الدلائل العشرة التي استدل بها هرقل عظيم الروم على صحة نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقياسه إلى إخوانه الذين سبقوه من الرسل، -صلى الله عليهم أجمعين-، فقال لأبي سفيان بن حرب - رضي الله عنه -: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، قال: فيزيدون أو ينقصون؟، قال: بل يزيدون؟ قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا.
ثم قال هرقل: وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان ينم حتى يتم، وسألتك هل يرتد احد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد أهـ.
فواعجباً لهرقل، ما كان أعلمه بالإيمان لو أنه كان مؤمناً!
ثم قال هرقل: إن يك ما قلت حقاً، فيوشك أن يملك موضع قدمي، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين.
وصدق هرقل، فإنه يعلم أن العالم يسلم..
لكن لم تلبث العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملياً حتى ارتدت - إلا قليلاً - فاشرأب رأس النفاق من جديد، وظنوا أن الإسلام قد انتهى، وأن الردة قد عمت وطمت.
ولكن هيهات، فلا بد للعالم أن يسلم..
وقف الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - في منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلن للناس أنه سيقوم بدين الله ويحمل الناس على الإسلام، وسيقاتل من فرق بين الصلاة وبين الزكاة، وسيقاتل من منع عقالاً كان يؤديه لرسول الله، وسيقاتل من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب وغيره.
وفي لحظة من التاريخ كان الصحابة الكرام مخالفين لأبي بكر رضي الله عنهم - يجادلونه في هذا القرار الذي اتخذه، على مرأى من الناس ومشهد، يحتج عليه عمر ومن معه من الصحابة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))
فقال أبو بكر - وكان أعلمهم بالله وبرسوله-: إن الزكاة من حقها، وما زال بهم يقرب لهم المعاني، ويلوح لهم بالفهوم حتى شرح الله صدورهم لما رأى أبو بكر، فعلموا أنه الحق.
في لحظة من التاريخ عصيبة، وساعة منه رهيبة، ستبقى تلوح على وجه الدهر، كانت الطائفة المنصورة متمثلة في رأي أبي بكر وفي شخصه، فنصر الله به الإسلام والمسلمين؛ إذ أنه لا بد للعالم أن يسلم، وهذا الموقف من خصائص الصديق.
وسارت جيوش الموحدين يقدمها سيف من سيوف الله قد سله الله على المرتدين كما سله من قبل على المشركين، فما هي إلا صولة أو صولتان، حتى جنى المسلمون الخير من أصالة رأي أبي بكر وعلمه، وحتى عاد الإسلام إلى جزيرة العرب أحسن عود، واستقر أحسن قرار.
وترسخت قاعدة الإسلام التي ستنطلق منها الفتوحات، وإذا جيش الردة يصبح جيش الفاتحين وتنطلق جحافل الإسلام شرقاً وشمالاً وغرباً، تنشر النور والهداية، مستشعرين عظم الرسالة التي يحمونها، والأمانة التي يحملونها، مدركين أن الله ابتعثهم؛ ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، مؤمنين أنه لا بد للعالم أن يسلم..
نعم العالم يسلم، إذا سمع كلام الله ووصله النور الذي جاء الله به: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
يحتاج العالم كي يسلم إلى أن يسمع كلام الله، وإلى من يبلغه له بأحسن عرض وبيان، وأن يخوض المسلمون به البحار، وأن يركبوا في سبيله الأخطار، عندها يسلم العالم، وقد كان ذلك وسيكون.
وصدق - صلى الله عليه وسلم - لما قال: ((ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه وليخاضن البحار بالإسلام)).
وفي لفظ: (( يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحر بالخيل في سبيل الله...))
وقال أنس بن مالك: عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: نام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: (( أناس من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت: مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين)) فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر)).
الشاهد من ذلك كله أن العالم يسلم..وللحديث تتمة.
=======================
أحمد فارس السلوم