بات الاعلام عنصراً هامّاً في صناعة الرأي الديني
من فضلك لا تتعجل في الإجابة عن الإشكالية التي يطرحها عنوان المقال، ولكن تعمق قليلاً في مضمونها، فالمضمون الحقيقي هو كيف يدرك المفتي الإعلام؟ والمفتي الذي نقصده ليس صاحب المنصب الرسمي في الإفتاء الذي تعينه الدولة فقط، ولكن ما نعنيه هنا هو الشخص الفاعل والمؤثر في صناعة القرار المتعلق بالشأن الديني، سواء أكان معينًا من الدولة، أم يحتل مكانة تتيح له التأثير في صناعة الموقف الديني، أو حتى من قادة الحركات الإسلامية على اختلاف تنويعاتها.
محددات مدخلية
توجد مجموعة من المحددات كمدخل للحديث عن العلاقة بين الديني والإعلامي في الوقت الراهن، تتعلق بكيفية إدراك الفاعل الديني للإعلام، ويمكن صوغها على النحو التالي:
- الشأن الديني -عالمياً ومحلياً- أصبح يحتل مكاناً بارزاً في عالم النشر المطبوع خاصة الكتاب، فإحصاءات موقع الأمازون- أشهر مواقع بيع الكتب عالمياً- تشير إلى أن كتب الدين والإلحاد هي أكثر الكتاب مبيعاً، أي إن ما يتعلق بالظاهرة الدينية نفياً وجدلاً وإثباتاً هو الأكثر رواجاً، وهو ما يعني أن الدين أصبح يحتل مكاناً مؤثراً في التأثير الوجداني، والتشكيل الثقافي؛ لقطاعات واسعة من الجماهير عالمياً، ويشهد بذلك حجم العناوين الصادرة، ومن أكثرها رصداً لهذه الظاهرة كتاب: "عودة الرب" الصادر هذا العام في الولايات المتحدة، والذي يشير إلى أن العالم يشهد صحوة أديان، وفي المنطقة العربية أشار أحد تقارير التنمية البشرية العربية إلى أن نسبة النشر الديني في عالمنا العربي تتجاوز 17% من حجم ما ينشر، وإذا وضعنا في الاعتبار أن الكتاب الديني كثيراً ما يتداوله أكثر من شخص للقراءة، فإن هذه النسبة ستزيد ربما إلى الضعف على أقل التقديرات.
- حجم الميديا التي تهتم بالشأن الديني تتوسع عالمياً ومحلياً، سواء على مستوى الفضائيات، أو مواقع الإنترنت، أو الصحف، أو المجلات المتخصصة، أو المساحات المخصصة في الصحف، لكن دلالة هذا التوسع في الميديا تشير إلى خضوعه لقانون العرض والطلب، بمعنى أن التوسع هو نتيجة وسبب لتنامي الطلب على الشأن الديني، غير أن هذا التوسع ارتبط بعدة مظاهر بعضها سلبي، منها:
أن هناك مكونات للميديا تحمل قدراً كبيراً من التعصب الديني والمذهبي، وهذا يستحوذ على جمهور معتبر، ويقود إلى تأزيم خطوط التماس الاجتماعي بين البشر سواء داخلياً أو دولياً، فالقنوات القبطية المتشددة والمهاجمة للإسلام، والقنوات السلفية المتشددة في النظر إلى المخالف لها دينياً أو مذهبياً، كلاهما أخذ يضع يديه على مواطن الفتنة بين البشر في محاولة لبثها.
- حجم الأزمات الثقافية الناجم عن الخبر الديني في تزايد مستمر، فالمتابع للسنوات الأخيرة يلحظ أن الميديا بكافة أشكالها كانت وراء عدد من الأزمات الثقافية والدينية، سواء إشعالاً أو ذيوعاً أو تحريضاً، فأزمة الرسوم المسيئة كانت من خلال الصحافة، وأزمة البابا بيندكت كانت خلال محاضرة أذاعها التلفاز، وأزمة إرضاع الكبير أو فتوى البول كانت أزمات بفعل فاعل في بعض الصحف السيارة.
- الماضي في الإعلام هو مستقبل للأديان: هذه المقولة تحتاج إلى قدر من التفكيك، ففي ظل انتشار الأشرطة المسجلة، ومقاطع الفيديو، وسهولة بثها على الإنترنت على موقع اليوتيوب وغيره من المواقع، أصبح في مقدور البعض اللجوء إلى بعض الخطابات المتطرفة، وبثها باعتبارها خطاباً طازجاً يدعو إلى الاحتشاد خلفه أو ضده، وهو ما يؤثر على مستقبل حركة الأديان، ففي فيلم "فتنة" الذي بثه المتعصب الهولندي فيلدز على شبكة الإنترنت استند لبعض المشاهد تظهر صورة متعصبة للمسلمين، وكان مرجعه في بعض اللقطات الأرشيف القديم المبثوث بطريقة أو بأخرى على الإنترنت.. ومن ثم فالذاكرة في ظل الميديا الجديدة طازجة دائماً وحية دائماً، وشرطها الوحيد هو الاستدعاء ووضعها في بؤرة الاهتمام الإعلامي، وربما ظهر ذلك في مسألة "بول النبي" التي انتزعها أحد الصحفيين من كتاب للدكتور علي جمعة كان يتحدث فيه عن واقعة ما، وحولها الصحفي وحورها على اعتبار أنها "فتوى" طازجة فتدحرجت كرة الثلج، وقفز البعض منها لاتهام آلية الفتوى، وقفز البعض لاتهام العقل المسلم والدين الإسلامي نفسه.
مرصد إعلامي لصانعي الرؤية الدينية
في ظل المحددات السابقة يصبح من الضروري على الفاعلين في الشأن الديني، وصانعي القرار والرؤية الدينية أن يمتلكوا القدرة على المتابعة الإعلامية من خلال مرصد خاص بهم يتولى هذا الشأن، أو من خلال مجموعة من المتخصصين في الإعلام تكون قريبة منهم، لكن يُطرح هنا سؤال آخر هو: كيف ينظر ذلك المرصد إلى الشأن الديني ويقدمه لصانع القرار الديني؟
يبدو السؤال بسيطاً، لكن حقيقتهً أنه سؤال جوهري؛ لأن الظاهرة الدينية معقدة ومتعددة الفاعلين والمتلقين والجهات المستفيدة والموظفة للخبر الديني.
وفي البداية لا بد أن نشير إلى أن نظر صانع القرار الديني ومن يقوم بعمليات التحليل الإعلامي بكافة مستوياته وصولاً إلى التنبؤ والانتقال من طور الرصد إلى طور المساهمة في صياغة المشهد الديني لا بد أن يقسم الساحة الدينية إلى أقسام ومجالات اهتمام حتى يفهمها ويمتلك القدرة على تحليلها والتعامل بنجاعة معها.
محددات تحليلية
وهنا نشير إلى عدة محددات مهمة، وهي:
1- تعاظم الدور الرسمي في صنع المشهد الديني على المستوى الإعلامي، فالدول منذ الخليقة لم تترك الدين يتحرك كما يريد أو كما يريد علماؤه وكهانه ورجاله، ولكن تدخلت على الدوام لصياغة المشهد، وكان تدخلها فاعلاً ومؤثراً.
فالدول القومية التي نشأت في المنطقة العربية والإسلامية عقب الاستقلال سعت غالبيتها للخروج من أطر الدين، لكنها ما لبثت أن عادت إليه مسرعةً؛ لتحقق قدراً من شرعيتها بعد فشلها التنموي، وهنا نلاحظ أن مساحة التأميم الرسمي للدين في تصاعد وفي حالة مد متواصل.
هذا المعطى يجب أن يلحظه الراصد والمحلل للشأن الديني، أو صانع القرار الديني بنوع من العناية والاهتمام، بل لا بد على عالم الدين الرسمي تحديداً أن يسعى لأن "يحول الليمونة اللاذعة إلى شراب حلو المذاق"، بمعنى أنه ما دامت الدولة الفاشلة الناقصة للشرعية تتدخل في الشأن الديني طوعاً أو كرهاً، فلا بد لعالم الدين الرسمي، أو من يصوغ معه ويدير معه الشأن الديني أن يحول ذلك التدخل؛ ليكون محققاً لغايات الدين الكبرى، وألا يغامر بمنازعة السلطان في كرسيه استناداً إلى الدين، ومن ناحية أخرى يجب ألا يلتصق بالسلطان؛ إذ لا بد من الاحتفاظ بمسافة معتبرة بين الدين والسلطان، وهو ما يعني أن الاهتمام بالمؤسسة الدينية لتباشر وظيفتها إحدى المهام الضرورية، فهو يؤمِّن ذوي السلطان ويحقق بعض غايات الدين.
وتأسيساً على ما سبق فمن يرصد الواقع الإسلامي في المجال الرسمي والإعلامي يلحظ حالات اعتدى فيها السلطان على الشأن الديني تأميماً ومصادرةً وتغييراً وتغييباً، فأثر ذلك في المنتج الإسلامي من الخطاب الديني في تلك البلاد، وأبرز تلك الأمثلة على ذلك الحالة التونسية، وفي المقابل هناك الحالة المغربية حيث تخضع لعملية هندسة مستمرة تتدخل من خلالها الدولة المغربية في صوغ المجال الديني بعناية بما يحقق شرعية الملك الدينية والسياسية، وتتسم الحالة المغربية بقدرتها على إحياء بعض مؤسسات الدين التقليدية مثل المؤسسة العلمائية، وتدعيم قوتها من خلال الموارد واستقطاب عدد من العلماء المحترمين، وتمكينهم من بعض وسائل التواصل والتثقيف المتعدد المستويات الذي يخاطب مستويات التثقيف الديني العالية، ويصل أيضا إلى شرائح المواطنين بدرجاتهم المختلفة، فهناك مجلة الإحياء، وموقع خاص بالرابطة العلمائية قوي وتثقيفي مهم، ودورات تدريب للأئمة والمرشدين الدينيين.
والمجمل في هذه النقطة أن الراصد والفاعل في الشأن الديني عليه أن يدرك أن الدولة التفتت بقوة إلى الدين مع موجات التدين الممتدة في المنطقة، فهي تعتبر تلك المساحة من الضروري أن يكون لها حضور فيها بمستويات مختلفة، وهو ما يستدعي النظر إلى طبيعة تدخل الدولة من عدة نقاط، منها:
- أن من يصوغ الحدث الديني أو يوظفه أو يصعده إعلامياً ليس بالضروري عالم الدين، ولكن تتداخل فيه مستويات وتخصصات مختلفة ورؤى متعددة، وقد تكون متنافسة ومتضاربة، فالأمني والسياسي والثقافي والذاتي حاضر في فعل الدولة الديني الموجه، فعلى سبيل المثال حالة المد السلفي الإعلامي في مصر وبعض الدول، يرجعه البعض إلى أن هناك رغبة للسماح بهذا الكم من الخطاب السلفي بالانتشار كمحاولة لهندسة الخريطة الدينية وفق معادلة أسماها البعض (الدعوة مقابل السياسة)، ورأى البعض أن نشر تيار المحافظة الدينية يتناغم مع رغبة ربما سياسية- في إبعاد قطاعات غير قليلة من الجماهير المتدينة عن مجال الفعل السياسي إلى مجال الفعل العبادي والانحصار داخل دائرة محددة، أسماها البعض "العلمانية الدينية" التي تفصل السياسة عن الدين.
- أن يجيد الراصد للخبر الديني فهم حالة الدفع الإعلامي ببعض الأخبار إلى واجهة المشهد الإعلامي، ويدرك أن هناك هندسة إعلامية للحقل الديني تتم من خلال وسائل الإعلام المختلفة، فالصعود الصوفي الحالي والقادم في العالم والمنطقة العربية ليس تناغما مع نهضة روحية فقط، ولكن منذ الثمانينيات من القرن الماضي والدراسات الأمريكية تبحث عن التصوف وتدرسه باعتباره "إسلاماً يمكن التفاهم معه"، إسلاماً يسعى للخلاص الروحي من شرنقة المادة، إسلاماً بلا مشروع سياسي.
وهنا نجد بعض الدول أخذت تدعم التصوف رغم مواقفها المتشددة من الدين مثل الدولة التونسية، فرئيسها حضر احتفالات المولد واستمع للصوفية ساعات، كذلك تنشط المؤتمرات الصوفية، وكذلك التصعيد الإعلامي للصوفية باعتبارهم الخلاص من صداع الإسلام الحركي والإسلام السلفي، وأيضاً الخلاص من الانحلال والأخلاق المتردية.
ومن هنا فالراصد الإعلامي للشأن الديني من الضروري ألا يغيب عن وعيه التحليلي البعد الرسمي في تصعيد التصوف إلى الصدارة الإعلامية، ومحاولته التنافس على التعبير عن الإسلام أو المنازعة في تمثيله للإسلام، وأن يمتلك القدرة على استشراف المستقبل بالنسبة للخبر والموضوع الديني القادم، فاستناداً إلى الاهتمام الإعلامي المبالغ قد يصل إلى فرضية أن الفترة القادمة ستشهد حضوراً ملحوظاً وربما طاغياً للصوفية في المشهد الإعلامي والدراسات الأكاديمية والاهتمام الغربي.
العلمانيون وصياغة المشهد الديني
2- التحليل الإعلامي مهم للمفتي وكذلك إدراك مغزى الأخبار، ومن التحليل الإعلامي للملف الديني نلحظ حضوراً علمانياً في صوغ المشهد الديني، ومحاولةً للتدخل في الملف الديني بمستويات مختلفة، فالعلمانيون بل متطرفوهم ليسوا بعيدين عن المشهد الديني صناعةً وصياغةً وهندسة، ففي المجال الأكاديمي نلحظ اهتماماً من متطرفي العلمانية بالقرآن بنوايا تثير القلق، فما يتم في المجال الجامعي خطير للغاية، ويجب ألا يكون بعيداً عن الرصد والتحليل من القائم على المجال الديني، فالقراءات الحداثية التي يقوم بها متطرفو العلمانية مقلقة للغاية، وبعضها ينتقل تدريجياً من المجال الأكاديمي إلى ساحة الإعلام، في مناطق بعينها.
أحد الأكاديميين الذين يصفون أنفسهم بأنهم متخصصون في الشأن الإسلامي مثل: الدكتور عبد المجيد الشرفي في الجامعة التونسية الثانية يحاول الانتقال بأفكاره القلقة والمقلقة في النظر إلى الشأن الديني من المجال الأكاديمي إلى الإعلامي، من خلال تكوين رابطة العقلانيين العرب التي تدعي أنها تنظر إلى الإسلام بعقولها، ورسالته "أننا أمام إسلامات متعددة"، وتؤسس رؤية الشرفي؛ لتوجهها الخطير من خلال عدد من الرسائل العلمية التي تشتغل في مساحة النص المؤسس تخريباً، وتنطلق بمشروعها إلى الفضاء الثقافي من خلال عدد من الكتب تحت عنوان عريض هو: "الإسلام واحد ومتعدد".
النقطة المهمة هنا أن الفاعل في الشأن الديني، والراصد والمحلل له يجب ألا يفصل بين الإعلام والمجال الأكاديمي في بعض المجالات، خاصةً عندما يتعامل الإعلام مع النص المؤسس، فتلك قضية جوهرية، حيث سيلحظ المدقق في الأخبار والإعلام أن هناك اتجاهاً يمشي على استحياء؛ للنيل من النص المؤسس للإسلام، من خلال الإفساح لبعض هذه الأصوات على فترات لبث أفكارها، وهنا تأتي جريدة مثل القاهرة-التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية-، لتكون شاهداً على ذلك، حيث نشرت حوارات مع الأكاديمي التونسي المقيم في باريس يوسف صديق واحتفت به، والرجل من المدرسة الأركونية، وكتابه "لم نقرأ القرآن بعد" كتاب يحمل الكثير من المشكلات في قراءته للقرآن.
3- التشظي الديني أصبح ظاهرة يجب أن يدركها القائم على التحليل الإعلامي، وهذا التشظي يتم في بعض الحالات بفعل فاعل، وفي حالات أخرى نظرا لطبيعة العصر، لكن خطورة التشظي هي تفتيت المرجعيات خاصة في المجال السني، وإفقاد العلماء الكبار القدرة على التأثير في الوعي الجماهيري، وهو ما يتطلب وجود خريطة لدى صانع القرار الديني للفاعلين الدينيين في المجال الجماهيري، ودراسة خطابهم وطبيعة المشروع الذي يمتلكونه.
فتِّش عن الغرب!
4- الغرب ليس بعيداً عن هندسة المجال الديني الإسلامي في المنطقة العربية والإسلامية، أو في الدول الغربية، واختلاف المجال يساهم في اختلاف الإستراتيجيات والتكتيكات، ففي الغرب حيث المسلمون يتصاعدون بفعل عوامل متعددة ومتنوعة ورغم ما يقال عن الإسلام هناك، فإن الغرب-رغم تنوع التحليلات- ينظر إلى الإسلام والمسلمين من خلال رؤية الأمن القومي والوطني، فبعض الدول مثل فرنسا لا ترغب في أن تنشئ هوية أخرى على أراضيها بعدما تحول الإسلام إلى مواطن أوروبي يسعى للحصول على حقوق المواطنة كاملة، ومن ثم فالأزمات الثقافية ضد المسلمين ستتكرر وبفاصل زمني قصير، وستكون أكثر حدة، وسيتم الدخول إلى قضايا مستفزة؛ لدفع بعض المسلمين ممن لا يدركون الخريطة الدينية والسياسية للأفعال التي تصادر على الأديان، وهو ما يفرض على الراصد والفاعل أن ينتبه بفكر ورؤى مستقبلية إلى تلك المناطق، وإدراك حقيقة تلك الأزمات القادمة وحالة التخويف من الإسلام.
وفي المنطقة العربية، الصعود السياسي للإسلام، وحركات المقاومة الإسلامية للاحتلال الأمريكي والغربي، وحالة الوعي بالمشروع الغربي الاستعماري التي خلقتها الجماعات الإسلامية، كل ذلك يجعل اليد الغربية قريبة وفاعلة في المشهد الديني، وإن تسترت بوجوه عربية وإسلامية، فللغرب رجاله ومثقفوه فينا.
التصوف والحضور الغربي
ونشير هنا إلى الحضور الغربي في ملف واحد، وكيف ينظر إليه، وكيف يصنعه، وهو الرؤية الغربية للتصوف باعتباره إسلاماً يمكن التفاهم معه، ومن تلك الدراسات دراسة مركز "راند" الأمريكي للأبحاث عام (2003) بعنوان: "الإسلام المدني الديمقراطي"، والتي أشارت إلى أن الجماعات الصوفية هي أحد الحلفاء المفترضين للولايات المتحدة في العالم الإسلامي، ثم عادت تلك المؤسسة وأصدرت دراسة أخرى عام (2007) بعنوان: "بناء شبكات إسلامية معتدلة" تناولت فيه الصوفية باعتبارها إحدى القوى المعتدلة التي يجب أن تقيم الولايات المتحدة تواصلاً معها، وفي عام (2009) صدرت دراسة أخرى بعنوان: "الإسلام الراديكالي في شرق أفريقيا" تناولت فيه الصوفية، وإمكانية أن يشكلوا عائقاً أمام نمو واستمرار الإسلاميين الراديكاليين في شرق أفريقيا.
وقد صدر-أيضاً- عن "معهد الولايات المتحدة للسلام" دراسة بعنوان: "الإسلام السياسي في أفريقيا جنوب الصحراء" عام (2005) تناولت الصوفية في القارة السمراء جنوب الصحراء، حيث تتمتع الصوفية بنفوذ ملحوظ في تلك المناطق، وينضوي الكثير من أبنائها ضمن طرقها.
وفي (2004) نظم مركز "نيكسون للدراسات" مؤتمراً كبيراً عن الصوفية تحت عنوان: "فهم الصوفية ودورها المحتمل في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية" ناقش مجموعة من الأوراق المهمة، رأت بعضها أن التصوف مرشح بقوة لأن يلعب دوراً مهماً، ومؤثراً في السياسة الأمريكية في العالم الإسلامي باعتباره أحد التجليات المعتدلة للإسلام، والتي تقدم تفسيراً منفتحاً، وقراءة معتدلة للتدين الإسلامي، وأن الصوفية قادرة على إقامة جسور تفاهم قوية خارج إطار الارتباطات الدينية، وفي (2007) صدر عن مؤسسة كارنيجي الأمريكي دراسة مهمة بعنوان: "الصوفية في آسيا الوسطى" تناولت الطرق الصوفية في آسيا الوسطى، وقدرتها على تجفيف التطرف والعنف المتصاعد من قبل بعض الجماعات الإسلامية.
وفي أواخر(2002) وجهت السفيرة الأمريكية بالقاهرة مارجريت سكوبي دعوة إلى عدد من الطرق الصوفية لحضور احتفالات السفارة الأمريكية بعيد الاستقلال، واعتبر علاء أبو العزايم- شيخ الطريقة العزمية- أن تلك الدعوة بمثابة اعتراف خارجي بمدى قدرة التصوف على فتح حوار بين الشرق والغرب، وسبق تلك الدعوة حضور السفير الأمريكي بالقاهرة ريتشاردوني مولد السيد البدوي في "طنطا"، كما أن جواند كاردنو القنصل الأمريكي في الإسكندرية كانت تلبي دعوات من بعض مشايخ الصوفية بحضور عدد من الموالد.
وفي عام (2009) أعلن الشيخ "محمد الشهاوي" شيخ الطريقة الشهاوية بمصر- عن إنشاء المجلس الصوفي العالمي" ومقره لندن، ومعتمد من وزارة الخارجية البريطانية، ويضم مشايخ من الطرق الصوفية على مستوى العالم، وأهم أهدافه مواجهة التعصب والتشدد الديني الذي يولد الإرهاب.
وفي يونيو(2009) عقد مؤتمر للصوفية في مصر صدر عنه بيان ختامي دعا إلى تشكيل لجان من علماء المسلمين في العالم؛ لبحث كيفية التقارب بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، كما شارك عدد من مشايخ الطرق الصوفية في مصر في منتدى دولي نظمته "الرابطة الدولية للتصوف" بالولايات المتحدة تحت عنوان: "القلب المفتوح والعقل المفتوح"، ورأى بعض المشايخ المشاركين أن تلك المنتديات تثبت أن الولايات المتحدة ليست ضد الإسلام، وأنها تتعاون مع كل فكر غير متشدد، حتى إن الشيخ علاء أبو العزايم رفض ما ذهب إليه البعض من أن الولايات المتحدة تستغل التصوف لتحسين صورتها في العالم الإسلامي.
وفي يونيو (2009) قامت باكستان بإنشاء "المجلس الاستشاري الصوفي" وكان الهدف المعلن له هو مواجهة التشدد الطالباني.
وفي (2008) أصدر أحد كبار الكتاب الأمريكيين المهتمين بالتصوف وهو "ستيفن شوارتز" كتاباً بعنوان: "الإسلام الآخر-الصوفية والهارموني العالمي" رأى فيه أن الصوفية هي السبيل لتحقيق مقولة أن الإسلام سوف يكون دين سلام، وأن الصوفية هي البديل الثقافي والاجتماعي والديني الأكثر أماناً من الأشكال الأيديولوجية للإسلام المهيمنة على العالم الإسلامي، وأن الصوفية تقدم مجتمعاً يلعب فيه الدين دوراً كبيراً، ولكن يظل دوراً عادياً، وأنها بديل من الممكن أن يتعامل معه الغرب.
مثل هذا الرصد الإعلامي لا بد أن يخضع لتحليل وقدرة على قراءة الإستراتيجية الغربية وراء هذا الاهتمام الغربي بإحدى القضايا الإسلامية والتنبؤ بخريطة المشهد الديني القادم.
عودة الأديان
5- من الضروري أن يدرك الراصد والمحلل للشأن الديني أن هناك عودة للأديان، وهي مرصودة من عشرينيات القرن الماضي، وأن الإحساس بالدين أصبح متصاعداً، وأن هناك أزمة يقين في العالم، وأن تيارات الإلحاد، وإن كانت ذات ضجيج، فإنها غير ذات حضور جماهيري، المهم في هذه النقطة للراصد أن الفشل الإلحادي في نفي الإيمان لم يجعل الإلحاد ييئس، ولكن اتجه إلى محاولة تغيير مفهوم الدين، ومثال ذلك: الحديث عن المشتركات الإنسانية كبديل عن توصيات الأديان، أو الدفع بمادة الأخلاق للتعليم، ومن ذلك ما يكتبه المفكر الفرنسي اليساري "برجيس دبروا" عن المشتركات الإنسانية، ومن ثم سيكون للعلمانية والإلحاد بتنويعاته حديث في الدين من الضروري معرفته ومعرفة مراميه وغاياته؛ لأنها معركة مع الإيمان.
6-الدعاة الجدد أو دعاة الفضائيات أخذ نجمهم في التراجع والأفول في الشهور الأخيرة، وهو أمر يستدعي البحث، لكن ما يعني الراصد والمحلل هو أن الإعلام يمتلك القدرة على صنع الظاهرة ووأدها في ذات الوقت.
ربما هذه الأفكار ترسم خريطة فكرية للمتابع والراصد للشأن الديني، أما الفاعل الديني أو صانع الرؤية الدينية والقائم عليها فلا بد أن يكون له مساران يتحرك فيهما:
الأول: الرصد الجيد للملف الديني بكافة تنويعاته وتعقيداته، والقدرة على القراءة الصحيحة لما يجري، وألا يفصل السياسي عن الديني في الحدث والخبر الديني، وألا يغيب عن إدراكه الإستراتيجيات الكبرى سواء الغربية أو الاستعمارية، أو حتى المشروعات العلمانية التي تبحث عن حضور لها في المجال العام في المنطقة، مع وجود قدر معتبر من التنبؤ والإدراك المبكر للقضايا التي سيطرحها الإعلام، وأن يمتلك القائم على الأمر قدرا من الجهوزية للتفاعل السريع والواضح والصحيح معها.
الثاني: أن يمتلك القائم على الأمر الديني قدراً من الوعي والجرأة والحكمة التي تؤهله أن يكون صانعاً وفاعلاً في المشهد الإعلامي بما يطرحه من قضايا، أي إنه يخلق الفضاء الذي يتحرك فيه، بمعنى أن يقوم بجزء في هندسة المشهد الديني وصناعة قضاياه، وهو أمر مهم ويحتاج إلى قدرات علمية وفقهية ووعي بالخريطة والسياق والمشاريع المنافسة والحضور الغربي في رسم المشهد الديني في منطقتنا.
=========================
مصطفى عاشور