الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمدك ربي ونستعينك ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثنا النُّفوس بالاستفتاء عَنْ هواها، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله خير من هدى الأمة لمناهل تقواها، وأصَّل مَعَالم الفُتْيا وقَوَّاها، فيا بُشرى لمن اقتدى به، ومَنْ لَمْ، فَواها!! اللهم فَصلِّ وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ذوي الخصائص والفضائل وسواها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، ما ألظَّت قلوبٌ بِنَجْواها، وسَلِّمْ يا رب تسليمًا كثيرا.
أما بعد - فيا عباد الله -: خير ما يُوصى به، تقوى الله - عز وجل -، فإنها عِصمة من الآفات مكينة، وجُنّة دون الفَرَطاتِ حصينة، ?وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً?، فالزموا رحمكم الله:
تقـوى إلـهِ العالمـين فـإنها *** عِزٌّ وحِرْزٌ في الدُّنا والمـرجِعِ
فيها غِنى الدارين فاستمسك بها *** والزم تَنَلْ ما تشتهيه وتدَّعي
أيها المسلمون: في عصرنا الزاخر بالوقائع والمستجدات، المُسْتبق نحو تِقَانات الفضاء المُذهلات، الوثَّاب حيال وسائل الاتصال المتعدِّدَات، ذاتِ البريق الإعلامي الأخَّاذ، تَبْرُزُ قضية شرعية مهمة، ذاتُ مقامٍ -وايم الله- رفيع، وشأنٍ أيّما شأن بديع، واعتبارٍ جِدُّ فائقٍ منيع، تناشد الأمةَ دون الانحدار، وتستلفت هِمَمَ الغُير أن ترتدَّ في سحيق القرار، مُنْذِرةً بكارثةٍ مُخيفة، فما كُنْه تلكم القضيةِ وما فحواها؟ ما جَدْوَاها في الأمة وما مَدَاها؟ بِمُقتضامَ تحيق بها الأخطار؟ وما آثارها على المجتمعات والأمم والأقطار؟ ما هي نتائِجها وما لواعِجُها؟ أنَّى نرتشفُ محامِدَها ومباهِجها؟ هل إلى ضوابط إليها من سبيل؟ أم من تأصيل شرعيٍّ مُنقِذٍ ودليل؟!
تلكم -يا أحِبَّتنا- هي قضيةُ التوقيع عن رب البريات عبر القنوات والفضائيات، أو ما يُعرف بفتاوى الفضائيات، بل هي قاصمة القول على الله بغير علم، مما غَدَا طعْنةً في الأحكام نَجْلاء، ووصمة مزرية شنْعاء، في مُحيَّا الفُتيا الأزهر، وسَنِيِّ قَدْرِها الأبهر، قد خَلْخَلَتْ صحيحها، وشابت صريحَها، وصَوَّحت فِيحها، ورَنَّقت -واأسفاه- أرجها ورِيحها، وفي نسقِ الذِّروة البَيانيّة، والبراعة البلاغية، الذي لا يجري إلا في ضروب الإنكار والتقريع، والزَّجر والتشنيع، يقول العزيز البديع في عظيم شأنها: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)، ولله درُّ العلامةِ ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول في جليل قدرها: "وإذا كان منصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحَلِّ الذي لا يُنكر فضلُه، ولا يُجْهَلُ قدْرُه، وهو من أعلى المراتب السَّنيِّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات، كيف وهو المنصب الذي تولاَّه بنفسه رب الأرباب، وكفى بما تولاَّه الله شرفًا وجلالة. نَعم يا أمة الإسلام! بالفُتْيا المدبَّجَة بنُور الأصليْن الشريفين تَسْتَبين معالم الدِّين، وتَنْجَلِي غوامضُ الأحكام عن المستفتين، وينعطف المسلمون شطر الدِّين المبين، بِالفُتيا المنضبِطة تُحْمى الملة من التحريف والتغيير، ويُصَانُ معينُها عن الانتحال والتكدير، بها تبرُز رَحماتُ الإسلامِ الرَّبَّانية، ومآلاتُه المقاصدية، في تلاؤم كُفْء أخّاذ مع نوازل العصر والزمان، انطلاقًا من شمول هذه الشريعة وكمالها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان".
إخوة الإيمان: ولِشدَّة الفتيا وخطورتها، وهيبتها ووُعورتِها، تدافعها الجِلّة من الأصحاب العظام، وتجانَفَها الخِيَرة مِنَ الأتباع الكرام رضوان الله عليهم-، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله- قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما كان منهم مُحدِّث إلا وَدَّ أَنَّ أخاه كفاه الحديث، وما مُفتٍ إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا"، وعن الإمام أحمد -رحمه الله- قال: "من عرّض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمرٍ عظيم"، وفي لفظ كافي يقول بشر الحافي: "من أحبَّ أن يُسأل، فليس بأهلٍ أن يُسْأل".
أحبتي الأكارم: ومِنَ العُرَر التي تمطت بكلكلها وخطوبها، ولَوَّحَت بِقَمْطَرِيرها وقطوبها في رحاب الفتيا الفيحاء مما استوجب التبْصير والتحذير، والإشارةَ بالسَّبَّابة والنَّكير ما تمثَّل في فوضى الإفتاء عبر القنوات والفضائيات والشبكات، ووسائل الاتصالات، دون حسيب أو رادع، ورقيب أو صادع، حيث غدا مقام الإفتاء العظيم، كلأً مباحًا، وحِمَىً مُسْتباحًا، وسبيلاً مطروقةً لكل حافٍ ومُنتعِل، ومطيّةً ذلولاً لكل يافعٍ ومكتهل، نبرأ إلى الله من ذلك ونبْتهل، ولا ينافي ذلك الإنصاف بالقول والاعتراف بأنه لا تخلو جملة ذلك من آثار إيجابية ومنافع دينية، إلا أنَّ الغيور ما أكثر ما يرى من أشباه المفتين، وأنصاف المتعالمين، الذين يتجاسرون على مقام التَّحليل والتحريم، فيُجْمِلُون الفُتْيا دومًا دون تفصيل، ويُرْسِلون القول غُفْلاً عن الدليل والتعليل، يتقحَّمون دون وجل عظيم المسائل، وهيهات أن يتورعوا من البَتِّ في النوازل، سيان عندهم الراجح من المرجوح، والمفتىَ به من المطروح، كيف وهم لم يتحقَّقوا بشروطها، فهتكوا سَنيَّ مُروطها:
والشرطُ في المفتي اجتهادٌ وهو أنْ *** يَعْرِفَ مِنْ آيِ الكتاب والسُّننْ
والفقهِ في فــروعه الشـواردِ *** وكلِّ ماله من القواعـــدِ
قدْرًا به يستنبط المســائـلا *** بنفســه لمن يكون سـائلاَ
غَرَّتْهم فِتنةُ الإعلام، فظنوا أنهم من الأعْلام، بل قد ترى بعضهم -هُدُوا إلى السداد والرشاد- لا يتورع عن اتخاذ الثوابت والأصول غرضًا للمناقشة والتبديل، تارةً بدعوة التيسير والتذليل، وأخرى بدعوى تغيّر الفتوى بحسب العصر والجيل، وما أحسن ما قاله الإمام مالك رحمه الله: "من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه"، استخفَّهم الولع بالظهور، واستشراف الجمهور، فارتكسوا في فتنة قاصِمَة الظهور، عياذًا بالله عياذاً.
معاشر المسلمين: ومن تلك الفواقر، لمتصدِّري فتاوى الفضائيات البواقر، أن أكثرها لا يقوم على قدم الحق، فكم أشجت حلقًا، وكم أعنتَتْ خلقًا، في تضخّم أرْعَنٍ للأنا والذات، وتجرُّئٍ على مقام الفتيا من الأذواء والذوات.
إخوة الإسلام: ومن أخطار تلك الفتاوى الفضائية، أنها تُنقل عبر قنواتٍ: شَتَّى مَآرِبُها، قِدَدَا مَشَارِبُها، ويُتابِعُها خَلْقٌ لا يُحصون كثرة في أقطار البسيطه، قد اختلفت مراتِبهم وفُهُومهم، ومقاصدهم وعلومهم، ولا ريب أن الهفوة في ذلك شدخ في الأمة حاصد، وبلاء في الدين راصد، وأيّا ما كانت مُكْنَةُ المُفتي وباعه ورسوخه في العلم وانتفاعه، فإنَّ البث المباشر مظِنة الخطأ والزلل، لأسباب وفيرة، ومحاذير كثيرة: منها التجَرِّي في المسائل دون التَّحَرِّي، وعدمُ القدرة على استتمام الأدلة، وتغيُّر العوائد لدى البلدان والأعراف، وعدم اعتبار ذلك في الإفتاء مِن الإجحاف، وكذا تحايل بعض المستفتين واختلاف مآربهم في السؤال.
ولك أن تســأل للتثبُّـت *** عن مأخذ المسؤول لا التعنُّت
إذ العِباد ليسُوا على سَنَنٍ واحدٍ من صِدْقِ النية ونُبل الطّويّة.
ومن شروط السائل المستفتي *** ألا يكـون عالمًا كالمفـتي
ومنها تناقض الفتيا وتضاربها مع قنواتٍ أخرى، فيهتبِلها فئام من الناس بين طاعن وعاذر، وقادحٍ مُحاذر، فيتشعب الخلاف في أقطار المسلمين ويتمادى، وتتنافر القلوب وتتعادى، وعلى إثر ذلك أمسى لكل قناة مفتٍ له جمهور وفريق، ومنحى في الإفتاء وطريق، ومحذور آخر مُريع: وهو التحَرُّج من قول: لا أدري؛ لأنَّ ذلك -عند من قلَّ ورعهم- منقصة في القَدْرِ وحَطٌّ من الشأن بزعمهم أمام جماهير الفضائيات.
فإن جَهِلْتَ ما سُئلت عنه *** ولم يكن عندك علمٌ منه
فلا تقـل فيه بغـير فهمٍ *** إن الخطا مزر بأهل العلم
ومن آفات تلك الأخطار -يا رعاكم الله- أن بعض القنوات تسْتقطب وتصدِّر لهذا المقام العظيم من قد ينتمون لمناهِج موبُوءة، وأفكارٍ مَخْبُوءة، فينتهزون الإفتاء سانحَة لِبثِّ الأضاليل، ونُهزَة لِنَفْثِ الأباطيل بين المسلمين في أقصى المعمورة وأدْناها، في فتاوى فَجَّه، بلا دليل ولا حُجَّه، كفتوى صاحب الشجَّه، بل لعل بعضها أن تكون إذكائية تحريضيه، أو تسويقية دِعائيه، يَتَلَقَّفُها أغرار، فيطيرون بها كُلَّ مطار، في عدم اعتبارٍ للمقاصد والغايات، والآثار والمآلات، أو يستغلها ذوو قلوبٍ مريضة، فيُزايدون على الشريعة، ويتنكرون لأحكام المِلَّة، ويطعنون في أصول الديانة، (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، في نُبُوٍّ عن منهج الحكمة والورع.
وليس في فتواه مفتٍ يُتَّبعْ *** إنْ لم يُضِفْ للدِّين والعِلم الوَرَعْ
أيها الأحبة: وبتلك الفتاوى الطائرة الخدَاج، والأحكام النَّزِقةِ النَّشاز، التي افتأتت على شرائع الدين، لن يكون حصادُها إلا نَكِدًا عَلْقماً، وجَناها إلا حَسَكًا وسُلاَّءً، بل هي الطوام التي تَدُكُّ من الشريعة شُمَّ الآطام، وايم الله كم أصْمت فتاوى الفضائيات من قلوب، وجرَّت من كروب، وأضلّت من خلائق، وتبَّرَت من علائق، وكم شوّهت من إشراقات الدِّين وكماله وخدشت من جلاله وجماله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويزداد الأَمْرُ هَوْلاَ، والخطبُ طَوْلا، إذا تعلَّقت الفُتيا بالعقيدة والدِّمَاء المعصومة، وأمْن الأمة ووحدتها، واتسمت بالشذوذ والفوضى والعشوائية، فأنَّى لمن زَجَّ بِنفسه في هذا المقام المُعضِل المُنْتَمَى -وهو خلو من الكفاءة والأهلية- ثُمَّ أنَّى له أن يستَدْرِك في القنوات كبوته، وعبر البثِّ المباشر نَبْوته، ولله ما أعظم قول الفاروق وأروع، وأسنى وأبدع، حيث قال: "إنما يَهْدِم الإسلام زلّة العالم" أخرجه الدّارميُّ في سُننه، وفي مأثور الحِكَم: "زَلَّةُ العالِم زلّة العَالم"، حين ذاك ما عاج بالدواء أهل الإفتاء والاستفتاء.
إذا قَتَلْتَ الأمـر علمًا فقل به *** وإياك والأمرَ الذي أنت جَاهِلُه
ولا تأنفن من قول لا أدري فمن *** نسي لا أدري أُصِيـبَتْ مَقَاتِلُه
فيا أمَّة الإسلام، ويا عُلماء الأنَام، ويا أهل الحل والعقد المؤتمنون على شريعة المَلِك العَلاَّم: لابد أن تهبوا على دويِّ تلك الزعازع، وتطبُّوا تلك الأدواء والمفازع، أدْرِكوا الإفتاء عبر القنوات قبل فوات الأوان، وتحقق الملام، فإن الدِّين في انتهاب، وألسِنَة المُسْتوطِئين للفتيا في التِهاب، والحَجْر لاستصلاح الأديان أحْرى من الحَجْر لاستصلاح الأبْدَان.
وجُوِّز استفتاء من قد عُرِفا *** أهلاً له أو ظُنَّ حيث لا خفا
وإلى المُمَكَّنين من وسائل الإعلام: اتقوا الله في شرع الله، لا تُصَدِّرُوا للفتوى إلا مَدَارِهَهَا وكُمَاتها، وفرسَانها وحُمَاتها، قال - سبحانه -: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، الله الله أن تخلِطُوا السَّم بالدَّسم، أو تُعْقِبُوا الرَّحيق بالحريق؛ لأجل السّمْسَرَة بالشهرة والبريق، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ).
نفعنا الله وإياكم بمحكم كتابه، وهَدْي خطابه، وجنبنا مسالك التعالم والزلل، وما يسخط الباري بالفعل أو القول الخطَل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله تقدَّس صفاتٍ وأسماءً، وجلَّ حَمْدًا وثناءً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعلى مقام الإفتاء أهْلِيَّةً وزكاءً، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المفتين أسْوَةً واقتداءً، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المتورِّعين عن موارد التحليل والتحريم، مع كونهم أكفاءً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب المَلَوَان انتهاءً وابتداءً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فليس لكم بغير التقوى مُسْتَمْسَكٌ يقوى، ولا أمَلٌ يَبْقَى، واحذروا -يا رعاكم الله- الخوض في الحرام والحلال، دون أثارة من علمٍ واستدلال.
أيها الإخوة في الله: ولما كان شأن الفتوى الفضائية بتلك المثابة من التبريح، والخطورة والتجريح، لزم صون مقامها الأثيل عن الفوضى والعشوائية والمزال، والسبهللة والمضال، والغلو والشطط، والهوى واللغط، وذلك بالضوابط المتينة، والحدود الشرعية الحصينة، فلا يتصدر الإفتاء الفضائي بل وسواه، إلا المؤهلون، الذين تحققت فيهم الشروط، خُبرا وخَبرا، وأن تُخْتَار القناة الإعلامية الموثوقة، بأمانة القائمين عليها دينيًا وخلقيا، دون المتاجرين بقضايا الأمة وثوابتها، مع التأكيد بألا يتولى تقديم البرامج الإفتائية إلا الأكفياء من طلبة العلم، ومن كان سمتهم يتوافق وهيبة الإفتاء ومنزلة الشريعة، لا مَنْ يَجْنَحُون للإثارة والاستفزاز، ولولي الأمر أو مَنْ ينوب عنه تنصيبُ المفتين، وانتقاؤهم، وكفُّ الدخلاء والطَّرَأة على الفتيا، ليتولى حارَّها من تولى قارَّها، قال الخطيب البغدادي: "ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها".
ولم يجز تساهلٌ في الفتوى *** بل تحرم الفتوى بغير الأقوى
وكـل عالم بذاك عُـرفا *** عن الفتاوى والقضاء صرفا
إخوة الإسلام: ومِن تلكم الضوابطِ المهمة: أن تقصر فتاوى النوازل والقضايا الكبرى والأقليات، على المجامع الفقهية والهيآت العليا الشرعية، في نأيٍ بمقام الفتوى عن الفردية والآحادية، وبذلك -وغيره بإذن الله- تُنتشل الفتيا من مأساة وشيكة، وتُستثمر الفضائيات والشبكات والمحطات، الاستثمارَ الإيجابي الأمثل، في نشر الدين والعلم والهدى والخير، ولزوم منهج الوسطية والاعتدال، وحفظٍ لأمن الأمة الفكري، وأن تُطوَّعَ تلك التقانات لخدمة المسلمين وقضاياهم، وتلك هي الأمنية المرجوَّة، والنعمة المحبوَّة.
إِنَّه لابد من التوارد على ميثاق شرفٍ عالميٍ للفتوى، يضبط منها المسالك، وينير الدروب في النوازل الحوالك، في تأهيلٍ للأكفياء الأصلاء، وذودٍ للمتعالمين الدُّخلاء، وإِنَّ مِنْ آلق مثال يحتذى في الفتيا المؤصلة، الناطقة بهدي الكتاب والسنة، ما تنعم به هذه الديار المباركة من مبادرات موفقة، لخدمة هذه القضية، في سبق مشكور، وسعي مبرور، عبر مؤتمرات عالمية، ومؤسسات علمية شرعية، تعالج من هذه الظاهرة أخطارها، وتتلافى أضرارها، وتتوافى بها إلى سالف عهدها وعزها من الإجلال والاعتلاء، مما بؤأها -بحمد الله- سُدَّة الثقة والنفع لدى العالم أجمع، ولا يقلل ذلك من آثار الجهات الموثوقة المُجَلِّية في عالمنا الإسلامي الرحيب، بارك الله في الجهود، وحقق أنبل المقصود.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله- على إمام الفتوى من أرسله الله للعالمين رحمة، وللبشرية كافةً منةً ونعمة، محمدٍ خير الورى، النبي المصطفى، والحبيب المجتبا، كما أمركم ربكم - جل وعلا -، فقال عز من قائل كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
======================
عبدالرحمن السديس