الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، وجعل السبيل إلى معرفته واعتقاده حقًا يقينًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى، - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فأواصل الحديث بفضل الله - تعالى -عن إثبات نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال الشهادات الكثيرة الدالة على صحة نبوته وبعثته - صلى الله عليه وسلم-، فأقول وبالله التوفيق والسداد: قد جاء في التوراة أيضًا في الفصل العشرين من السفر الخامس: «قال موسى: أقبل الله من سينا، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه ربوات الأطهار عن يمينه»(1)، «فسيناء» هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى - عليه السلام -، و«ساعير» هو جبل الخليل بالشام، وكان المسيح - عليه السلام - يتحنث فيه ويتعبد، و«فاران»(2) جبل بني هاشم الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث فيه ويتعبد، وقد خصت التوراة نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بزيادة على موسى وعيسى فقالت: «معه ربوات الأطهار عن يمينه، وذلك كناية عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن معنى الربوات الجماعات من الأكابر والمعظمين في الدين، قال أبو البقاء صالح الهاشمي: «ويحتمل أن يكون أراد بالربوات جماعة الملائكة وهو الأقرب، لأن الربوات واحدها ربوة، قال داود في المزمور الثالث: «الرب ناصري لا أخاف من ربوات الشعوب المحيطين بي»، فيكون ذلك كناية عن تأييد الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالملائكة في حروبه وغزواته وترددهم إليه بالوحي والتنزيل، وفي التوراة أن إسماعيل سكن برية فاران ونشأ بها وتعلم الرمي، وذلك كله بمكة، وإذا كان ذلك كذلك فلم يأت من جبال فاران من دعا إلى الله وأظهر أحكامه ونشر أعلامه وشرع الدين القويم ونهج للأمة الطريق المستقيم...سوى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
وقد قال كثير من أهل العلم: إن مجيء الله من طور سينا معناه إنزاله التوراة على موسى من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير معناه إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى «ناصرة»، وباسمها سمي من اتبعه نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران، أي: إنزاله القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجبال فاران هي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة، فهذا من التحريف والإفك الذي اصطنعوه، وفي التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران، ومنها استعلن وظهر دين النبي - عليه الصلاة والسلام -.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقًا، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى
منه، وفيه كان نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قيل: إن بمكة اثنى عشر ألف جبل وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحدًا أن يدعي أنه - بعد المسيح - نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ازداد به النور والهدى، وأما نزول القرآن، فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر
بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا سماه الله سراجًا منيرًا، وسمى الشمس سراجًا وهاجًا، والخلق محتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- : «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»(4).
وهذه الأماكن أقسم الله بها في القرآن الكريم في قوله - تعالى -: والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد
الأمين<< [التين: 1- 3]، فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ومنها بعث المسيح، وأنزل عليه فيه الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة، وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمنا خلقا وأمرا، قدرا وشرعا، فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون<< [إبراهيم: 37]، ومن البشارات المؤيدة لصحة بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره دانيال النبي - عليه السلام - حين سأله بختنصر عن تأويل رؤيا رآها ثم نسيها فقال: «رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك رأسه من ذهب، وساعداه من الفضة، وبطنه وفخذاه من النحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من خزف، ورأيت حجرا لم يقطعه يد إنسان قد جاء وصك ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا، ثم نسفته الرياح فذهب وتحول ذلك الحجر فصار جبلا عظيما حتى ملأ الأرض كلها - هذا ما رأيت أيها الملك، فقال بختنصر: صدقت، فما تأويلها؟ قال دانيال: أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من الفضة وهما دونك، ويقوم بعدهما مملكة أخرى وهي دونهما وهي التي تشبه النحاس، والمملكة الرابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كل شيء، وأما الرجلان اللتان رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها متشتتة، وأما الحجر الذي رأيت قد صك ذلك الصنم العظيم ففتته، فهو نبي يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة شريفة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ منه الأرض ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا، فهذا تعبير رؤياك أيها الملك»(5).
فقد أخبر دانيال عن الله - تعالى -أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء ودولته خاتمة الدول. وقد وضح الأستاذ إبراهيم خليل - الذي كان قسيسا فأسلم في القرن الماضي - تحقق هذه النبوءة التي أخبر بها دانيال على النحو التالي:
1- سنة 701 ق. م مملكة بابل، ويرمز لها بالرأس من الذهب في عهد بختنصر.
2- سنة 612 ق. م مملكة الكلدانيين في عهد ميداس ويرمز لها بالفضة.
3- سنة 326 ق. م المملكة الإغريقية في عهد الإسكندر المقدوني ويرمز لها بالنحاس.
4- سنة 53 ق. م الإمبراطورية الرومانية في عهد بومباي، ويرمز لها بالحديد.
5- سنة 612م الإمبراطورية البيزنطية في الغرب، والإمبراطورية الساسانية في الشرق.
6- سنة 637م الإسلام، وكتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وتقويض الإمبراطورية البيزنطية والفارسية.
ويعقب ابن تيمية - رحمه الله - على كلام دانيال هذا بعد أن ساقه فيقول: «قلت: فهذا بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لا بعث المسيح، فهو الذي بعث بشريعة قوية دون جميع ملوك الأرض وأممها، حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته، في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم قائم لا يقدر أحد أن يزيله، كما زال ملك اليهود، وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وسلطانها»(6). وما قاله - رحمه الله - حق واضح لمن تأمله، فكلام دنيال منطبق على نبي هذه الأمة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - تمام الانطباق، لا على المسيح ولا على نبي سواه، ولكن اليهود قوم بهت كذبوا على الله وعلى أنبياء الله ورسله، ونسبوا إلى الله ما لا يليق بجلاله وكماله، كما حدثنا القرآن الكريم عن ذلك، وكذلك فعلوا مع الأنبياء والمرسلين، وما يزالون إلى اليوم يفسدون في الأرض بأشد أنواع الظلم والفساد، ويستخدمون أساليب القتل والتدمير والإرهاب، والدعوات الإلحادية التي ظهرت في العالم كان وراءها هؤلاء المجرمون، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ونحن حينما نذكر ما في كتبهم الآن إنما نريد إقامة الحجة عليهم بما سطرته أيديهم لعلهم يرجعون ويفقهون، أو يستمرون في العناد والتكذيب فيهلكون، وستكون - إن شاء الله - الدولة والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين.
------------------------------------
عبدالله شاكر جنيدي