الجميع بلا استثناء صادفه أن التقى ذات يوم أحد المتسولين، سواء أكان ذلك أمام مسجد من المساجد، أو خلال سيرة في أحد الطرقات، أو داخل وسيلة من وسائل المواصلات، مما يعكس حجم تلك الظاهرة الغريبة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والتي كان انتشارها في البداية مقصورًا على حالات منعزلة في مناطق محدودة في المدن الكبيرة، غير أنها أصبحت اليوم ظاهرة امتدت إلى كل الأنحاء الحضرية والريفية، بل والبدوية أيضًا؛ مما سبب إزعاجًا كبيرًا لدى الكثيرين من أبناء هذه المجتمعات، كما يعكس الكثير من المخاوف الاجتماعية والأمنية والحضارية، بل إن الأكثر إزعاجًا في المسألة هو استغلال هؤلاء المتسولين للدين كأحد الوسائل المؤثرة في الناس؛ لابتزازهم وانتزاع ما يريدون منهم، برضا تام وشعور بفعل الخير مما حوَّل التسول ـ وللأسف الشديد ـ إلى تجارة رابحة، تجتذب العديدين إلى صفوفها يومًا بعد يوم.
كذلك فإن انتشار هذه الظاهرة وتفشيها بتلك الصورة، فضلًا عن ثبوت إدعاء الكثيرين من هؤلاء المتسولين للفاقة والحاجة، بما يناقض حقيقة موقفهم المالي وأوضاعهم الاقتصاديةـ كانت دوافع قوية إلى أن تتضافر الجهود من أجل وضع حد لها، وطرح القضية على مائدة النقاش، مع ضرورة الكشف عن الموقف الإسلامي من تلك الظاهرة، وبيان مدى فاعلية القوانين الوضعية التي سنت لمعاقبة من تسول له نفسه ممارسة هذا الفعل دون أن تتحقق فيه الشروط التي تبيحه.
وهنا يجب استجلاء الموقف الإسلامي، والشريعة الإسلامية من التسول، إذ أن الإسلام ـ كعادته ـ كان سبَّاقًا في التعاطي مع هذه المشكلة، ووضع لها الحلول منذ بداية الدعوة؛ من أجل الوصول إلى أفضل المجتمعات، التي يتمتع فيها أغلب الأفراد بحياة كريمة وعزيزة، وهو ما جعله حريصًا على أن يربي المسلمين على مكارم الأخلاق، ويغرس فيهم العزة والشمم، والترفع عن النقائص، والبعد عن المعايب.
ومن ثم؛ فقد مدح الله عز وجل في كتابه الكريم من تعفف من الفقراء، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273]، والآية وإن وردت في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنها تتسع لتشمل من اتصف بهذا الوصف، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما يقول الفقهاء.
كما أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تنفر من سؤال الناس، وترغب في أن يكون المسلم عفيفًا، ذا كسب طيب ينفق منه ويتصدق، ففي الحديث الذي جاء في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) [متفق عليه، البخاري، (1361)، ومسلم، (1033)]، وفي تسمية اليد المنفقة باليد العليا؛ تصوير لعلو المسلم ورفعته وعزته، وفي تصوير اليد الآخذة بالسفلى؛ استهجان لسؤال الناس أموالهم، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يكونوا أصحاب اليد العليا، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي جاء في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلًا فيسأله؛ أعطاه أم منعه)) [متفق عليه، البخاري، (1401)، ومسلم، (1042)، واللفظ للبخاري]، وروى البخاري أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) [البخاري، (1400)].
كذلك يؤكد الإسلام أن الأصل في سؤال الناس هو الحرمة، ولا يستثني من هذا الأصل إلا من استثناه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، حيث بيَّن من تحل له المسألة، فالمسلم لا تحل له المسألة إلا إذا وجدت الضرورة التي تلجؤه إلى هذا السبيل، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)) [متفق عليه، البخاري، (1474)، وسلم، (2443)، واللفظ للبخاري]؛ وذلك لأن المسألة من غير حاجة ظلم في حق المسئول، وظلم في حق السائل كما يقول ابن القيم.
وفي مقابل ذلك، فقد حث الإسلام على العمل والكد، ضاربًا بحال بأنبياء الله ورسله المثل في ذلك، إذ كان الجميع بلا استثناء يأكل من عمل يديه، ولا يسأل الناس، بل إن الإسلام عدَّ طلب الرزق المباح عبادة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) [البخاري، (2072)].
وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذات مرة، عن التسول في المساجد؛ فأجاب رحمه الله بما نصه: (أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس، ولا بغير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر الناس، مثل أن يسأل الخطيب والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علمًا يشغلهم به، ونحو ذلك؛ جاز والله أعلم) [مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (22/206)]، وهنا يضع ابن تيمية الشروط الواجب أن تتوفر لمن يقوم بهذا الفعل، وعليه فإن عدم توفر هذه المعايير؛ ينتقل بالفعل من الحل أو الجواز إلى الحرمة وعدم القبول، مما يعطي لأولي الأمر أو المسئولين الحق في منع مثل هذا السلوك، بل والمعاقبة عليه.
أما من الناحية القانونية؛ فإن قانون العقوبات بأحد الدول العربية، يُعرِّف المتسول: بأنه من ليس له موارد عمل، أو كان يستطيع الحصول على موارد عمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان، صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية، وهو ما دفع واضع هذا القانون إلى توقيع عقوبة الحبس، التي تصل إلى مدة شهر على الأقل، وسنة على الأكثر، لمن يمارسه دون وجه حق، فضلًا عن وضع فاعله في دار للتشغيل، والقضاء بهذا التدبير وجوبًا في حالة التكرار.
وهو ما اتفقت عليه معظم القوانين الوضعية المعمول بها في الدول العربية، التي اعتبرت أن التسول جريمة يعاقب عليها القانون، ونص بعضها على الآتي:
أولًا: يُعاقب من وجد متسولًا في الطريق العام، أو المحال العمومية، أو الأماكن العمومية، حالة كونه صحيح البنية، ويبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا فأكثر، بالحبس لمدة لا تتجاوز شهرين.
ثانيًا: ويُعاقب من وجد متسولًا في الطريق العام، حالة كونه غير صحيح البنية، وغير قادر على العمل، ويبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا فأكثر، في مدينة نُظمت بها ملاجئ، يمكنث إلحاقه بها، بالحبس مدة لا تتجاوز شهرًا.
ثالثًا: ويُعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة شهور، كل من ارتكب الجرائم الآتية:
1- من وجد متسولًا، وهو صحيح البنية، وتصنع الإصابة بجروح أو عاهات، أو أي طريقة أخرى؛ لاكتساب عطف الجمهور.
2- من دخل منزلًا أو ملحقًا بدون إذن، ويقصد التسول.
3- من وجد متسولًا ومعه أشياء تزيد قيمتها على مائتي قرش، ولم يستطع إثبات مصدرها.
4- من أغرى حدثًا يقل سنه عن ثمانية عشر عامًا على التسول، أو استخدمه، أو سلمه لغيره بقصد التسول.
رابعًا: ويُعاقب كل من كان مسئولًا عن الحدث، سواء بصفته وليًّا، أو وصيًّا، أو مكلفًا، بملاحظة حدث تقل سنه عن ثماني عشرة سنة، وأغراه على التسول، بالحبس من ثلاثة شهور إلى ستة شهور.
خامسًا: ويُعاقب في حالة العود بالنسبة لأي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون التسول، بالحبس لمدة لا تتجاوز سنة.
وكذلك القانون الفرنسي، فقد نص على معاقبة المتسول، فقد جاء في المادة (227) من القانون الجنائي فقرة (20)، ما نصه: (كل من حرض حدثًا، لم يكتمل من العمر 18 عامًا بشكل مباشر على القيام بأفعال التسول، يُعاقب بالحبس الذي لا يزيد على سنتين، وبالغرامة التي لا تزيد على 300000 فرنك، وإذا كان سن الحدث لا يجاوز 15 سنة تصبح العقوبة الحبس، الذي لا يزيد على ثلاث سنوات، والغرامة التي لا تزيد على 500000 فرنك).
ومع ذلك، فإن الباحثة الدكتورة نهاد عبد الحليم عبيد ترى أن أنظمة الضمان الاجتماعي في القوانين الوضعية لم تعالج موضوع التسول؛ لأنه ليس من أصحاب الحاجات، غاية ما في الأمر أنها اعتبرت التسول وصفًا غير أخلاقي، لأن فيه مظنة من يدعي الحاجة، وليس أهلًا لذلك.
في حين أكدت على واقعية العلاج الإسلامي، من خلال آيات القرآن الكريم، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الظاهرة؛ فالروح العامة للإسلام لا تجيز أن يعيش المجتمع الإسلامي مفكَّكًا، لا تسوده روح الإخاء والتعاون على البر والتقوى، كما لا يجيز أن يعيش أناس ويموت أناس آخرون جوعًا وفقرًا وتشردًا وحرمانًا، بل لابد أن يعيش الجميع في ظل الجميع، ويعمل الكل على مصلحة الكل.
لهذا ومن أجل تحقيق الخير للأمة، وتحقيق الحياة الطيبة؛ وضع الإسلام إجراءات في الوقاية، وسبلًا في العلاج، ومن ذلك الدعوة إلى العمل وترك التواكل، وتهيئة فرص العمل، وتحريم الربا، والحث على الوقف الخيري والقرض الحسن، والهجرة في طلب الرزق الحلال، وتحريم الاحتكار، والاشتراك في ضروريات الحياة: الكلأ والماء والنار، وتحريم الاكتناز وإيجاب الزكاة، والحث على الصدقات التطوعية، وتوفير الكفاية وجوبًا من غير طريق الزكاة والصدقات، والحث على الوصية.