تتعدد صور الزواج العرفي، باختلاف ملابسات كل عقد، ومن ثم تتعدد طرق النظر إليها والأحكام المتعلقة به سواء في الشريعة الإسلامية أو في القوانين الوضعية.
فمن صور الزواج العرفي ما يتم شفاهة بغير كتابة بين العاقدين، ومنه ما يتم كتابة فقط دون ولي ولا شهود، ومن صوره كذلك ما يتم كتابة ويوقع عليه العاقدان والشهود وبحضور الولي، ولكن دون تسجيل رسمي في الوثائق الحكومية.
وتتفق هذه الصور جميعها، وما قد يلحق بها مما يطلق عليه زواج عرفي في أمرين اثنين:
الأول: البعد عن الرسمية بعدم توثيق عقد الزواج، بالمخالفة للقوانين السارية.
الثاني: السرية، بعدم إشهار الزواج بالصورة المعتادة والمتعارف عليها شرعًا.
والقوانين الوضعية بصورة عامة لا تتدخل في أي صورة من صور الزواج العرفي، إلا في حالات محدودة، تتعلق برسمية هذا الزواج من عدمه، ولا تتطرق لتجريمه أو تحريمه، ولكن فقط تتوقف عند حد التوثيق الرسمي، وما يستتبع عدم وجود هذا التوثيق من إشكاليات متعلقة بتسجيل المواليد وإثبات حق الإرث عند الوفاة، أو طلب الزوجة الطلاق للضرر أو عدم الإنفاق.
وتأتي النظرة السلبية للقوانين الوضعية إلى الزواج العرفي في صورة الأخرى الباطلة والفاسدة متسقة مع رؤيتها لحقوق الله وحقوق العباد، فهي لا ترى في العلاقة الآثمة بين الرجل والأنثى حقًا واجبًا لله عز وجل، بل تجعله حقًا محضًا للعباد، ومن ثم يحق لكل طرف ـ وفق القانون الوضعي ـ أن يلتقي مع الآخر بالصورة التي يرغب فيها طالما خلت العلاقة من شبهة العنف أو الإكراه أو التغرير.
فهذه القوانين لا تتدخل مثلاً في حال ثبوت الزنا، إذا تم بموافقة الأنثى، أو زوجها إذا كانت متزوجة، فلا تجرم هذه العلاقة الآثمة، ولا يتم ملاحقتها قضائيًا، ولا حتى من قبيل الحسبة.
أما الشريعة الإسلامية فرؤيتها جد مختلفة إذا إنها جرمت، وحرمت كافة العلاقات الجنسية التي تجمع بين الرجال والنساء إلا ما كان من قبيل الزواج الذي لم تتركه هملاً يرتع فيه اللاعبون وفق أهوائهم وأمزجتهم، بل شرعت الشروط ووضعت القواعد التي تبعده عن مجال الريبة والشكوك والظنون.
فهذه العلاقة، في رؤية الشريعة الإسلامية، ليست حقًا محضًا للأفراد، ولا مجالاً فيها للأمزجة والعقول البشرية؛ لأنها ببساطة شديدة يتعلق بها مستقبل البشرية كلها، ومن ثم فقد جعلتها الشريعة حقًا لله خالصًا، فإذا ما وقعت على سبيل المثل جريمة كالزنا أو أي جريمة أخرى على شاكلتها، فليس لأي طرف أن يتنازل عما يدعيه من حق؛ لأنه لا مجال للحديث عن حقوق العباد هنا، فليس من حق إلا حق الله عز وجل وهو إقامة الحد.
وإذا ما تطرقنا إلى نظرة الشريعة للزواج العرفي، سنجد بداية أن الشريعة الإسلامية قعدت قاعدة عامة تشمل كافة مجالات الحياة من زواج ومعاملات وغيرها، ألا وهي ترك الشبهات لأنها باب الولوج إلى الحرام، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". صحيح أبي داود .
أما في التفصيل، فإن الزواج العرفي، في نظر الشريعة، يطلق على عقد الزواج الذي لم يوثق بوثيقة رسمية، وهو نوعان:
الأول: يكون مستوفيًا للأركان والشروط، فعقد الزواج كغيره من العقود له أركان وشروط صحة لا بد أن تتوافر فيه حتى يكون صحيحًا، ومن أركان عقد الزواج الصيغة للدلالة على إرادة المتعاقدين، ومن أركانه كذلك ولي أمر المرأة الذي يجب أن يتولى عقد الزواج بنفسه أو بوكالة، وذلك بناء على أحاديث متعددة وردت في هذا المجال تبين أنه لا بد لعقد الزواج من وجود ولي أمر المرأة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل".
وأيضًا من شروط الصحة أن يشهد العقد شاهدان على الأقل، إلى آخر ما هو مطلوب في عقد الزواج من شروط، كخلو المرأة من الموانع الشرعية التي تمنع العقد عليها وهي مبسوطة بتوسع واستفاضة في مظانها من كتب الفقه والحديث.
فإذا توفرت في عقد الزواج الأركان وشروط الصحة كان عقدًا صحيحًا، فعقود الزواج في عهد رسول الله والصحابة لم توثق، وأيضًا في عصر التابعين ومن بعدهم.
فهذا العقد صحيح شرعًا يَحلُّ به التمتع وتتقرر الحقوق للطرفين وللذرية الناتجة منهما، وكذلك التوارث، حتى وإن لم يوثق عند الجهات المختصة.
الثاني: لا يكون مستوفيًا للأركان والشروط، وهذا له صوره متعددة أشهرها ما يكون بتراضي الطرفين على الزواج دون أن يعلم بذلك أحد من الشهود ودون وجود الولي عن المرأة، وهو ما يحدث بين الشباب في بعض الجامعات، وهذا نوع من العقود الفاسدة التي لا يجيزها الشرع.
ويجب، وفق الشريعة الإسلامية، أن يُفرق بين العاقدين في هذه الحالة، وإن كان يترتب على الدخول الحقيقي، وفق هذا العقد الفاسد غير المُجاز شرعًا، مجموعة من الآثار من أهمها:
1- يرد عنهما حد الزنا لوجود الشبهة.
2- وجوب مهر المثل.
3- حرمة المصاهرة.
4ـ ثبوت النسب.
5- تجب فيه العدة على المرأة وتبدأ من وقت المفارقة، باختيارهما أو قضاء، وتعتد المرأة لهذه الفرقة عدة طلاق حتى في حالة وفاة الرجل.
ولا يثبت شيء من هذه الأحكام إلا بالدخول الحقيقي، فمجرد الخلوة بين العاقدين لا يترتب عليه شيء من ذلك، أما غير ذلك من الحقوق فلا ثبت كالتوارث بين الزوجين والنفقة والطاعة.
فهذا العقد غير المستوفي للأركان والشروط، لا يصح في الشريعة الإسلامية، ومحكوم عليه بالفساد، رغم ترتب بعض الآثار الشرعية عليه، ويجب التفريق بين العاقدين اختيارًا أو قضاء.
عقود الزواج كانت تتم قديمًا ـ كما أسلفنا ـ بدون وثيقة وبدون تسجيل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (32/131): "لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول ويُنسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له".
ولكن بعد فساد الزمان وغلبة الخداع والغش، صار تسجيل عقد الزواج واجبًا، وإن كان العقد إن تم مستكملاً لأركان الزواج وشروطه صحيحًا شرعًا، وكونه صحيحًا لا يمنع كذلك من الإثم من جهة المخالفة، كمن صلى الصلاة بأركانها وواجباتها، ولكن صلى بثوب مغصوب، فصلاته صحيحة، وعليه إثم الغصب.
فهذا الزواج غير الموثق صحيح شرعًا تحلُّ به المعاشرة الجنسية، لكن عدم التوثيق له أضرار، وتترتب عليه أمور محرمة منها الآتي:
1ـ عدم التوثيق يفتح المجال والذريعة أمام الادعاءات الكاذبة، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع..فتوثيق العقود دعا إليه شيوع الكذب وشهادة الزور، فمن الشائع مثلاً أن يدعي رجل على امرأة أنه تزوجها، ويستعين بشاهدي زور، أو تدعي هي الأخرى أنه تزوجها، وتستعين بشهود زور كذلك، فدرءًا لهذا الخطر الذي يفتح الباب أمام دعاوى الزواج، ينبغي توثيق عقود الزواج.
2 ـ عدم التوثيق فيه مخالفة للسلطة الحاكمة، وطاعتها واجبة فيما ليس بمعصية ويحقق مصلحة، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيُعوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ" [النساء: 59].
فالطاعة هنا من باب الطاعة في المعروف، وقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه.
3 ـ عدم توثيق عقد الزواج يعرض الحقوق للضياع كالميراث الذي لا تُسمع الدعوى به بدون وثيقة، وكذلك يضيع حق المرأة في الطلاق إذا وقع عليها الضرر، وقد جاءت الشريعة بما يحفظ على الناس حقوقهم، ومنعت كل ما من شأنه أن يضيع هذه الحقوق.
4ـ أمر الله جل جلاله بتوثيق الدين، حيث يقول سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ"، إلى قوله تعالى: "وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا".[البقرة 282-283]. فهذا الأمر الرباني في كتابة الدين لما في الكتابة من حفظ للحقوق، فمن باب أولى كتابة ما يتعلق بالعرض والنسب.
وعلى ذلك ينبغي تسجيل الزواج بوثيقة رسمية، عند الجهات المختصة، ومن لم يفعل ذلك فهو آثم، وإن كان العقد صحيحًا تترتب عليه آثاره الشرعية كاملة.