الاستخفاء بالدعوة:
بدأت الدعوة الإسلامية بمكة سرية، ويحدد ابن إسحاق وابن سعد هذه المرحلة بثلاث سنين (1). ويحددها أبو نعيم كذلك بثلاث سنين، لا يُظهِر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلا للمختصين به، منهم: خديجة وأبو بكر، وعلي وزيد رضي الله عنهم وغيرهم، ثم أعلن الدعوة وصدع بها بأمر الله نحو عشر سنين(2).
ومما يدل على أن الدعوة كانت سرية في بداية الأمر ما نقله ابن إسحاق بأن: "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين، وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون..." (3).
وأخرج مسلم عن أبي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجلٍ بمكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، جُرَءَاءُ عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه مكة..."(4).
وروى جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن عمر رضي الله عنه لما أعلن إسلامه قال: "قلت: يا رسول الله، ففيمَ الاختفاء؟.."(5).
وذكر ابن كثير - رحمه الله - في سبب نزول الآية الكريمة: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94]، ما نقله أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)، فخرج هو وأصحابه"(6).
ومما يدل أيضًا على تكتم المسلمين في أمر دينهم في أوائل المرحلة المكية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه: ((اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل)) (7).
وأخرج البخاري - رحمه الله - في جامعه الصحيح معلقًا بصيغة الجزم، قول النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: ((فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة)) (
.
وكان أبو ذر رضي الله عنه يرى نفسه رابع الإسلام (9)، كما عبَّر بذلك عمرو بن عبسة عن نفسه (10)؛ لأن كلاهما لا يدري من أسلم قبل الآخر، حيث كانت الدعوة هي السبب في تعارض دعاوى السبق إلى الإسلام؛ إذ كان يخفى على اللاحق من سبقه إلى الإسلام (11).
ورُوي عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: فقلت له -أي للنبي صلى الله عليه وسلم-: فمن معك على هذا؟ قال: ((حرٌّ وعبد))، قال: ومعه يومئذٍ أبو بكر وبلال ممن آمن معه، فقلت: إني متبعك، قال: ((إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟! ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)) (12).
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبره بأسماء سائر من أسلم، وإنما سمى أبا بكر وبلالاً فقط؛ حرصًا على سلامة من أسلم من الأذى(13).
ويعضد ذلك ما جاء في رواية ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد" (14).
فقد كان عدد المسلمين أكثر من ذلك، إلا أن قريشًا لما أظهرت جرأتها على الإسلام واشتدَّ أذاها على المسلمين، كما يدلُّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا ترى حالي وحال الناس))؟ آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم إخفاء أسماء الباقين.
ومن الملاحظ إذن أن الانضباط الأمني العالي كان يحكم سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه الأوائل، الأمر الذي جعل الكثير ممن أسلموا يعتقد كل واحد منهم أنه من السُّبَّق، كما اتضح ذلك من قول أبي ذر وعمرو بن عبسة، وقول سعد بن أبي وقاص: "ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام" (15).
فهؤلاء قالوا ذلك حسب اطلاعهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أحاط الدعوة بسياج من الانضباط الأمني، حالَ دون معرفة ما كان يجري من التحولات داخل المجتمع المكي؛ فالدعوة كانت تتحرك، والناس كانوا يسمعون بها ويتحدثون عنها، لكن الإحاطة بمن انضوى تحت لوائها ظَلَّ غير معروف، وهو ما جعل الملأ من قريش لا يُولونها أهمية ويقلقون منها ويحفزون لمواجهتها، إلا بعد فترة من الزمن تمكنت فيها من مدِّ جذورها في أعماق المجتمع (16).
وبذلك جاء عمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا النطاق منظمًا ومنسقًا في مستوى التحدي والطموح معًا؛ إذ أعدَّ للدعوة الأرضية الصلبة التي ستقف عليها بوثوق وثبات بعد ذلك.
ومن الملاحظ أيضًا: أنه في بعض الأحيان يمكن التدخل بين الدعوة السرية والدعوة العلنية؛ إذ تفيد رواية إسلام أبي ذر ذلك.
فهذا علي رضي الله عنه يتخذ تدابير اليقظة والحذر، وهو يمهد الطريق لإدخال أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قابله - عليه الصلاة والسلام - واستمع إلى قوله فأسلم، قال له: ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري))، فقال: "والذي نفسي بيده، لأصرخَنَّ بها بين ظهرانيهم"، فخرج حتى أتى المسجد، فأعلن إسلامه أمام الملأ من قريش، إذ نادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله" (17).
وهذا يفيد أنه ليس لكل مرحلة من المرحلتين السرية والعلنية معالمها المحددة، وإنما قد تواكب إحداهما الأخرى تبعًا لما تقتضيه مصلحة الدعوة الناشئة.
الحكمة من سرية الدعوة:
لقد كانت الدعوة السرية مرحلة تنظيمية تقتضيها حكمة التدبير في تبليغ الرسالة؛ نظرًا لعدة اعتبارات منها:
1- التريث ريثما تتكون لبنات قوية المزج، شديدة التماسك في جو بعيد عن إثارة المعوقات في طريق سير الدعوة؛ لأن هذه اللبنات هي القوة الدافعة التي سيعتمد عليها بناء المجتمع الإيماني الجديد في مواجهة قوى الظلم والبغي المتربصة بهذا الدين في صبرٍ لا يعرف الوهن، وجهاد لا يعرف اليأس.
2- نهج المسالمة المؤقتة في البداية؛ لأن مهاجمة هذا المجتمع الغارق في شروره ومواجهته بضلاله وساق الدعوة لم يستوِ بعدُ، يؤذن بتحريك دوافع المقاومة للدعوة في نفوس المستكبرين، والدعوة لا تزال في أول خطواتها، فتتعثر في سيرها، وهي لا تزال وليدة طرية.
لذلك آثر النبي صلى الله عليه وسلم الاستسرار بدعوته وتبليغ رسالته؛ حرصًا منه أن يكون سيرها مطردًا وئيدًا هادئًا، تسير إلى القلوب بخُطا ثابتة، حتى تتمكن من الإعلان عن نفسها في الوقت المناسب (18)، بعد أن يؤمن بها عدد من الناس يضحون في سبيله بالغالي والنفيس، مما يضمن استمرارها وبقاءها.
3- إتاحة الفرصة للدعوة حتى تصل إلى مسامع العرب في مواسمهم ومحافلهم وأسواقهم ومضارب منازلهم، فأتت هذه الخطوة أُكُلها؛ حيث أقبل إلى مكة فريق منهم، يتحسس أخبارها، ويتعرف مكانها في خفيةٍ وحذر، حتى إذا بلغوا مأمنها في مقرها "دار الأرقم" أسلموا لله - تعالى -، واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم، واهتدوا بهديه، وآمنوا بما جاء به من الحق.
======================
محمد أمحزون